يقول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد في كتابه (إما/أو):
“تزوج؛ ستندم، أو لا تتزوج؛ وستندم أيضًا، اضحك من تفاهة العالم؛ وستندم، أو ابكِ بحرقة منها؛ وستندم كذلك، اشنق نفسك؛ وستندم، أو لا تشنق نفسك؛ وستندم، بكل الحالات ستندم.”
دائمًا ما خطرت لي تلك المقولة في أوقات الأزمات الشخصية، وتحديدًا في لحظة ما بعد التعرض للرفض، سواء كان رفضًا من علاقة عاطفية أو صداقة أو حتى رفضًا في وظيفة أو موقع اجتماعي. قد تبدو الجملة عدمية وحزينة، لكنها دائمًا ما كان لها وقع السحر. فما كنت أظنه نهاية العالم، بدا دائمًا حدثًا عابرًا. وحتى لو لم يحدث هذا الرفض، فلا ضمانة أننا لن نندم بطريقة مماثلة في وقتٍ آخر.
في أوقات متفرقة من الحياة، نُقابل جميعًا بالرفض، ويأتي حاملًا معه عددًا من المشاعر المؤلمة. أولها: شعور بضعف التقدير الذاتي، فصورتنا أمام أنفسنا تتعرض لهزة وتشويش. وثانيها: ألم جسدي فعلي، إذ تشير الدراسات العصبية الحديثة إلى أن المخ البشري يُفعّل نفس المناطق العصبية عند التعرض للألم الجسدي كما يفعل مع الرفض الاجتماعي. ومع الوقت، تتحول هذه المشاعر المكبوتة إلى رغبة في الانعزال، مقرونة بـ حنين دائم للشخص الآخر، وكأننا نشتاق إلى الفردوس المفقود.
في مجتمعات الأزمة، سواء في منطقتنا العربية أو حتى في الغرب، تتحول مشاعر الألم إلى غضب عنيف موجّه ضد الطرف الأضعف، وغالبًا ما تكون المرأة التي رفضت علاقة أو زواج. أدى ذلك إلى تنامي ظاهرة “التبتل القهري” (Involuntary Celibacy)، وظهور مجتمعات “الإنسيلز” (Incels)، وثقافة “الحبة الحمراء” التي تتهم النساء والحركات النسوية باتباع نظام منظم لرفض الرجال الضعفاء اجتماعيًا وماليًا.
فكيف يمكننا إذًا التغلب على مشاعر الرفض ومنعها من التحول إلى رد فعل عنيف ضد الذات أو الآخرين؟
البحث عن الذات من خلال الآخرين
لدى كلٍ منا تصور شخصي عن نفسه، تكون عبر السنوات ومراقبة الأهل والمجتمع. لكن هذا التصور يتعرض لهزة مباشرة بعد الرفض.
يقول المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان إن نظرتنا لأنفسنا هي جزء من “عالم الفانتازيا” (Fantasy Order)، وهو عالم تشكّل من التنشئة والمراقبة الاجتماعية، لكننا نصدقها كما لو كانت حقائق.
في المقابل، يدعو لاكان إلى ما يسميه “العالم الرمزي” (Symbolic Order): أي التعرف على الذات من خلال تفاعلها مع المجتمع والآخرين.
بالتالي، الصورة المهزوزة التي تسبب بها الرفض يمكن إعادة بنائها عبر رحلة علاقات جديدة، تشكّل من خلالها مرآة أخرى أكثر واقعية.
وهذا ما ينصح به علم النفس الحديث كذلك. فبحسب أبحاث في نظرية التنظيم العلائقي (Relational Regulation Theory)، فإن الدعم الاجتماعي والمشاركة في الأنشطة الجماعية يساعدان على تخفيف أثر الأزمات النفسية.
مجرد الحديث مع صديق مر بتجربة مشابهة، أو ممارسة رياضة جماعية، يمكنه أن يعيد التوازن النفسي.
تأمل مواقع الآخرين
بعد تجاوز الصدمة، نحتاج إلى تغيير زاوية النظر. أي التفكير في الأمر بعقلانية:
هل هذه هي نهاية العالم؟ هل هذا الشخص هو الوحيد المناسب لي؟ هل أنا ضحية؟
هنا يحكي الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك أنه قرر الانتحار بعد رفض عاطفي، لكنه أراد أولًا كتابة رسالة وداع. الرسالة توسعت وتحوّلت إلى مشروع فكري استمر لأكثر من نصف حياته. الكتابة أنقذته. كذلك يمكن لأي نشاط آخر أن يُنقذنا: فن، رياضة، عمل، تعلم، تطوع.
التفكير العقلي يعني أيضًا وضع الرفض في سياقه الاجتماعي. من رفضنا له أسبابه، ربما ظروف خاصة، أو تطلعات مغايرة.
نحن لسنا دائمًا الضحية، وليس بالضرورة أن يكون الآخر سيئًا.
مشاعرنا السلبية هي جزء من تطور الدماغ البشري ككائن اجتماعي، والاستجابة للرفض جزء من هذا التكوين. لكن هذه المشاعر ليست دائمة، وتتبدل كلما خضنا تجربة إنسانية جديدة.
في النهاية، نحن كائنات اجتماعية. الرفض لا يعني أنك منبوذ أو غير محبوب، بل فقط أن الموقع الزمني أو السياق لم يكن مناسبًا هذه المرة.
وما دام في العمر بقية، فستكون هناك مرات أخرى وفرص جديدة، ومهما كان الألم الآن قويًا، فسيصبح ذات يوم مجرد قصة تُروى أو تجربة تشكّلك