قوة الخيال
في سنة 2016، حدثت سلسلة من الزلازل العنيفة باليابان أدت إلى أضرار وخسائر كبيرة في محافظة كوماموتو وجزيرة كيوشو. فقام فنان من كوماموتو بالتبرع بـ 800 مليون ين (ما يوازي ثمانية ملايين دولار) على دفعتين، الدفعة الأولى تحت اسم “لوفي” وتقدّر بـ 500 مليون ين، والأخرى 300 مليون ين باسمه هو.
في إيماءة تقدير لمساعدته، اُستخدِم من المبلغ 13 مليون ين (حوالي 121,567 دولارًا) لإقامة تمثال لـ “لوفي” أمام المكتب الحكومي للمحافظة، مما أدى إلى نتيجة غير متوقعة لأهل المحافظة؛ فالتمثال يُدخل 2.6 بليون ين (ما يساوي 24 مليون دولار) من الزيارات السياحية إلى الاقتصاد المحلي، كما اكتشف باحثو الجامعة التابعة لها.
“لوفي” ليس إنسانًا حقيقيًا بالطبع، رغم أن له تمثالًا أمام مبنى المحافظة. لكن هذه ليست المعلومة الوحيدة العجيبة عن تلك الشخصية؛ فالعالم الذي ينتمي له، عالم “وَن بيس”، والذي يتكوَّن من سلسلة مانجا، ومسلسل أنمي، ومسلسل واقعي من إنتاج نتفليكس، وأكثر من 14 فيلمًا، و13 عرضًا تلفزيونيًا خاصًا، غير مجموعة عريضة من منتجات الملابس والإكسسوارات، والألعاب الواقعية والإلكترونية… تُقدَّر قيمته بحوالي 21 مليار دولار، أي أكثر من الامتياز التجاري لعوالم “سيد الخواتم” و**”جيمس بوند”** و**”المتحولون”**.
مبتكر شخصية “لوفي” وعالمه “وَن بيس”، الذي تبرع لمحافظته الأم بهذا المبلغ الكبير، هو الياباني “إييتشيرو أودا”، البالغ من العمر 49 عامًا. ولا يبدو مستغربًا أن يتبرع بهذا المبلغ؛ فهو المانجاكا، أو فنان المانجا الأغنى في العالم، بثروة تُرجَّح قيمتها من 200 إلى 230 مليون دولار، بجانب كونه رقم 10 في قائمة أعلى كتّاب الخيال مبيعًا في التاريخ، تاليًا لـ ويليام شكسبير وأجاثا كريستي وج. ك. رولينج.
من هو هذا الأودا؟
وُلد إييتشيرو أودا في 1 يناير 1975، في مدينة كوماموتو باليابان. في سن الرابعة كان قد بدأ بالفعل يقرأ الكثير من المانجا، ويتابع هواية أبيه في الرسم الزيتي، فقرّر أن يصبح مانجاكا حتى يحصل على المال دون “عمل حقيقي” كما ظن في هذا السن.
عندما وصل إلى الصف الخامس، كان التأثير الأكبر عليه هو سلسلة المانجا “دراجون بول”، والتي ستؤثر كثيرًا على طريقة رسمه وكتابته في المستقبل، بجانب مسلسل الكارتون المفضل له “فيكي ذا فايكنج” الأوروبي، والذي تدور أجواؤه في عالم القراصنة، مما دفعه ليقرأ سير القراصنة الحقيقيين التي ألهمته تفاصيل العديد من الشخصيات التي سيبتكرها لاحقًا.
في السنة الأولى من المدرسة الثانوية، قرر ترك لعبة كرة القدم، التي دخلها بسبب تأثير مانجا “كابتن تسوباسا”، المعروف عربيًا بـ “كابتن ماجد”، في سبيل التفرغ كاملاً لصنع المانجا.
حين بدأ العمل بشكل احترافي كمساعد في ستوديو الفنان “واتسوكي”، واجه مشكلة رفض كل مشاريعه المستقلة الخاصة، حتى تمت الموافقة أخيرًا في مجلة “شونين جامب” على فكرة “رومانس داون” التي تعتبر أساس سلسلة “وَن بيس”، على هيئة مانجا “المرة الواحدة”(one-shot)، أي تلك التي تصدر في مطبوعة واحدة دون أن تكون ضمن سياق سلسلة أو لها أجزاء أخرى.
لكنه حاز على فرصة أخرى حين حدث فراغ في عدد جديد لـ “ويكلي شونين جامب”، فأنتج مسودة جزء تالٍ لـ “رومانس داون” خلال أسبوعين فقط. ومثل المرة الأولى، حازت على إعجاب القرّاء.
رغم ذلك، واجه العديد من الرفض وتشككًا كبيرًا من الناشرين، قبل أن يستطيع الوصول إلى نقطة إصدار العدد الأول من سلسلة “وَن بيس” في مايو 1997، ليترك عمله كمساعد في “واتسوكي” ويتفرغ كـ مانجاكا مستقل بدوام كامل.
غموض وغرابة شخصية “أودا”
مثل العديد من المانجاكا، قليلًا ما يظهر “أودا” في الصور أو الفيديوهات، وحين يحدث ذلك يكون وجهه مغطى بوجه بطل سلسلته “لوفي” أو بشيء طريف مثل رسمة سمكة أصبحت شعارًا له، وفي الحوارات المكتوبة يطلب أن تُرافقها رسومات يقوم هو بها، لا بصور حقيقية له.
وعلى منوال الطريقة الكلاسيكية في صناعة المانجا، لا يحب أودا التقنيات الرقمية في الرسم، بل يستخدم الوسائل اليدوية، الأكثر مشقة واستهلاكًا للوقت بكثير. ستوديو رسم أودا موجود في بيته، المزيَّن بديكورات قراصنة حقيقية وآلاف الكتب والأوراق البحثية التي يجمع منها معلومات لأفكاره وأحداث عالمه، وبداخله أيضًا ركن للطعام وركن للحلوى وماكينة فشار ولعبة الرافعة تحتوي على أشياء نادرة، كما يحتوي على شاشة ضخمة حجمها 100 إنش جلبها كمفاجأة طريفة لمساعديه، حتى أنه كسر حائط بيته كي يستطيع إدخالها.
بيت “أودا” نفسه يبدو كأنه مدينة ملاهي مصغرة مزينة بتيمات المانجا والأنمي، فهو يقتني أشياء غريبة، من ضمنها قطار ملاهي صغيروتمثال زرافة بالحجم الحقيقي، كما أنه يحيط قاعدة الحمام من الأرض إلى السقف بصور قروش بحر حقيقية، وقد صمّم حوض الاستحمام بنفسه لكي يجعل الماء ينزل من فم تنين ذهبي.
يظهر الجانب الطفولي من شخصية أودا أيضًا في خلافه مع “تيتي كوبو” مبدع سلسلة المانجا الشهيرة “بليتش”، والذي دام لأكثر من 20 عامًا، فـ “كوبو” يُلقي اللوم على “أودا” في الفوز عليه في مسابقة مانجا، مما جعل سلسلته تتأخر في الصدور لسنوات. ويظهر من تبادل تصريحات الكراهية بينهما أن لهما شخصية طفولية في التعامل مع الخصومة والخلاف.
الجانب المظلم لصناعة المانجا: خطر “الكاروشي”
في تأثير واضح للخيال على الحياة الواقعية، يقابل “أودا” في الثامنة والعشرين من عمره، في فعالية تخص “وَن بيس”، فتاة في الخامسة والعشرين، ترتدي طقم شخصية “نامي”، إحدى شخصيات المانجا النسائية، لتصبح بعد عام من المواعدة زوجته وأم لطفلتيه.
لكن نظرًا لجدول عمله القاسي، الذي يبدأ من الساعة الخامسة صباحًا حتى الثانية صباحًا في اليوم التالي، بأوقات راحة فقط أثناء الوجبات، فـ “أودا” يعيش بعيدًا عن أسرته، ويستقبلهم فقط مرة في الأسبوع. ولكونه عاملًا مجتهدًا وساعيًا للكمال، ينام 3 ساعات فقط في أيام العمل، ويكرّس أول ثلاثة أيام من الأسبوع لوضع مخطط القصة، والوقت الباقي للتحبير والمسودات والتلوين المحتمل. وبذلك لا يكون لديه متسع في جدوله للاستحمام أو الحلاقة، ويفعل ذلك فقط قبل أن يقابل عائلته في موعدهم الأسبوعي، بل ينسى أحيانًا أن يأكل فيُذكّره أحد مساعديه بذلك.
“أودا” لديه في المتوسط 5 مساعدين يساعدونه في التحبير ورسم التفاصيل أو الخلفيات والتظليل، وذلك لكي يكون متقدمًا على نقطة النشر بحوالي خمسة أسابيع، لكنه يقوم برسم كل ما يتحرك في الكادرات بنفسه ليعطي إحساسًا بالاتساق في الرسومات.
أحيانًا ما يمتنع “أودا” عن الطعام عن عمد، فقد قال في لقاء سنة 2012، إنه إذا أراد الحصول على فكرة جديدة، فإنه يفكر كثيرًا بها بلا أكل أو نوم، لأنه يعتقد أن البشر يصلون إلى الأفكار الجديدة حين يصلون إلى حدودهم القصوى. ولهذا، في كل مرة ينتهي من مسودة قصته الأسبوعية يكون قد أُنهك تمامًا. وأضاف أيضًا في لقاء عام 2017 أنه يفضّل جمع المعلومات للمانجا على النوم، لأنه يراه مضيعة وقت، ويتمنى أن يصبح روبوتًا لا يحتاج إليه.
“أودا”، المصاب بالسكري والنقرس جراء أسلوب حياته الضاغط، ليس على هذا الحال وحده، فـ المانجاكا مكرّسون بشدة لصنعتهم، خصوصًا الناجحين منهم. فعدد ساعات العمل الطويلة، وتواريخ التسليم الأسبوعية الضاغطة لسنوات طويلة، تجعلهم محرومين من النوم، ومفتقرين إلى تغذية جيدة، فيُصابون بداء السكري، والتهاب أوتار اليد، وإصابات الظهر الحادة، وهي أمراض شائعة جدًا بينهم لدرجة أنهم يقبلونها كجزء لا يتجزأ من حياتهم المهنية. وعلى حد قول أحد محرري “شونين جامب”، فإن الصفات الأساسية لأي فنان مانجا ناشئ هي: “أعصاب فولاذية، ومعدة قوية جدًا، والقدرة على العمل لأيام دون نوم أو نقود أو طعام”.
“ماساشي كيشيموتو”، مبدع “ناروتو”، مثلًا، لم يكن لديه وقت كافٍ لأخذ زوجته في شهر العسل حتى بعد 15 عامًا من الزواج، كما أن وفاة أحد محركي الأنمي الخاص بـ “ناروتو” في سنة 2017 نُسبت إلى الإجهاد من فرط العمل. ويحكي “كيشيموتو” نفسه، الذي يتبادل الاحترام والإعجاب مع “أودا”، ويضع الاثنان تحيات خفية لبعضهما في المانجا التي يرسمونها، أنه في سنة 2013، حين كان “أودا” ينام ثلاث ساعات فقط أغلب الوقت على مكتبه، دخل المستشفى بسبب مضاعفات الإجهاد التي أدت إلى “خُراج مجاورات اللوزة” أو “العاذور”، فقام بزيارته ليفاجأ بـ “أودا” في سرير المستشفى يستكمل رسم مانجا “وَن بيس”. وكونه يألف روح العمل هذه، فبدلًا من أن يطلب منه التوقف، قام بوضع كرسي جانبه وساعده فيما يعمله، لأنه يعرف أن هذا ما يحتاجه فعلًا.
يظهر هذا التكريس المدهش للعمل ضمن سياق ثقافي أوسع للإفراط في العمل في اليابان، حتى أن الوفاة بسبب فرط العمل وضغوطه لها اسم هناك، وهو “كاروشي”، الذي يخترق مختلف المهن وقطاعات العمل نظرًا للتنافسية الشديدة في سوق العمل والمطالب والضغوط العالية لأصحاب الأعمال، وهي أمور تنطبق تمامًا على مجال صناعة المانجا. في عام 2016، قُدّر أن 1 من كل 5 عاملين في اليابان تحت خطر “الكاروشي”، كما أنه السبب الأعلى لقتل الرجال من سن 20 إلى 44، حتى أن البرلمان الياباني أجاز قانونًا في 2018 يحد من ساعات العمل الإضافية، ويغرّم من ينتهك الحد الأقصى المسموح به.
نجاح وانتشار “وَن بيس”
خطط “أودا” بالأصل أن تستمر “وَن بيس” لمدة خمس سنوات فقط، ووضع نهايتها بالفعل مُسبقًا. مع ذلك، يبدو أن السلسلة تأخذ وقتًا أطول مما توقع، فهي مستمرة حتى الآن لمدة 27 عامًا، لأنه، كما صرّح، قد أحب القصة جدًا لينهيها في مجرد هذه المدة. في شهر أغسطس 2019، توقع “أودا” أن تنتهي المانجا بين 2024 و2025، وأن النهاية ستظل هي التي وضعها في البداية. لكن في مقابلة تلفزيونية أذيعت في اليابان لاحقًا، قال إنه سيغيّر النهاية إذا استطاع المعجبون تخمينها.
السلسلة التي تتربع على عرش المانجا ومطبوعات الكوميكس عمومًا، بصفتها في ديسمبر 2023، الأكثر مبيعًا في التاريخ بأكثر من 523.2 مليون نسخة مباعة في 61 دولة حول العالم، حصلت على الكثير من الجوائز، وصُنّفت من قِبل النقاد والمراجعين والقرّاء كواحدة من أفضل المانجات التي صدرت. حتى أنها دخلت موسوعة “جينيس” مرتين في عامي 2015 و2022، عن عدد النسخ المنشورة لسلسلة كوميكس، كما أنها المانجا الأفضل مبيعًا لمدة 11 عامًا متتاليًا من 2008 إلى 2018، والمانجا الوحيدة ذات الطبعات الأولية التي تتخطى 3 ملايين نسخة لمدة 10 سنوات متواصلة.
بعد إصدار المجلد رقم 100 في سنة 2021، أوضح هيرويوكي ناكانو، رئيس تحرير مجلة “ويلكي شونين جامب”، كيف غيّرت مانجا “وَن بيس” تاريخ المانجا وطريقة صنعها. قال “ناكانو”: “قبلها، كانت إصدارات ويلكي شونين هي لعبة شعبية أسبوعيَّة، ولا يُعرف ما سيحدث الأسبوع التالي”، مضيفًا أنه بعد الشعبية الساحقة لـ “وَن بيس”، كان لها تأثير كبير على السلاسل الأخرى.
يُعرض أنمي “وَن بيس” لأكثر من 25 عامًا حتى الآن، وفيلم “وَن بيس ريد” الصادر سنة 2022، احتل المركز الأول في تصنيف شباك التذاكر في اليابان لمدة أحد عشر أسبوعًا متتاليًا، وهو ما فعلته ثلاثة أفلام يابانية فقط في تاريخها. واعتبارًا من يناير 2023، حقق الفيلم أكثر من 246.5 مليون دولار أمريكي في جميع أنحاء العالم، مما يجعله سادس أعلى إيرادات فيلم في اليابان على الإطلاق. هذا جانب من فيض النجاحات الكثيرة التي حدثت بسبب صدور المانجا الأصليَّة.
أسباب نجاح السلسلة
ساهم مسلسل الأنمي في انتشارها عالميًا بالطبع، بل ربما يكون العامل الأكبر في ذلك. لكن إذا سألت أحد معجبي “وَن بيس” عن سبب هذه الشهرة الطاغية والانتشار الواسع، فغالبًا ما تسمع عن عناصر ترجع إلى المانجا. فأنت على الفور ستسمع عن استثنائية طرق السرد، وبناء العالم، ورسم الشخصيات، والأحداث المثيرة، وعنصر الفكاهة، إلخ… سأحاول بشكل موجز تحليل هذه العناصر لفهم كيف ساعدت على نجاح السلسلة بهذا الشكل غير المسبوق.
أولًا، العالم: القصة التي تتبع شخصية “مونكي د. لوفي” وطاقمه “قراصنة قبعة القش”، في الارتحال عبر “الخط العظيم” في محاولة العثور على الكنز الأسطوري “وَن بيس” كي يصبح ملك القراصنة الجديد، هي قصة بسيطة لمغامرة مرحة تدور في عالم خيالي محبوك جيدًا، له خرائط وتقاسيم جغرافية وديموغرافية وسياسية متشابكة، بعناصر فانتازية واضحة مثل القدرات الخارقة التي تكتسبها الشخصيات من “فاكهة الشيطان” (لوفي مثلًا له قدرات مطاطيَّة)، وقدرات فوق-طبيعية تسمى “هاكي”، والخيال الشاطح في تخيل الكائنات والأشياء عمومًا في أوضاع تلامس خيالات السيكاديلك.
ثانيًا، الشخصيات: هذا العالم الفانتازي ممتلئ بالكثير من الشخصيات المختلفة، فبجانب شخصيات الطاقم، هناك من يلاقونهم أثناء رحلتهم من قراصنة آخرين، صائدي الجوائز، مغامرين، منظمات إجرامية، ثوريين، عملاء سريين، أنواع مختلفة من العلماء، جنود حكومة العالم (البحريَّة)… معظم الشخصيات بشرية، لكن هناك أقزامًا وعملاقة، وعرائس وعرسان بحر، ورجال-أسماك، ورجال-سماء، وحيوانات بشرية (مينكس)، إلخ…
شخصيات الطاقم نفسها في تزايد مستمر، ولهم دراما شخصية تميز كل واحد منهم، ملحمية ومثيرة بامتياز. فـ “أودا” يضع شخصياته في مواقف حديَّة عليهم أن يتخطوها، وهي مواقف إنسانيَّة تستعرض قيمًا عاطفية مثل الشجاعة والمروءة ومساعدة الآخرين. كما أن هناك غموضًا أخلاقيًا فيما يخص أطراف القصَّة، فلا يمكن الحكم أخلاقيًا بوضوح على القراصنة أو أعضاء حكومة العالم، مما يصنع عمقًا للشخصيات والعالم ككل الذي تتحرك فيه.
في استفتاء أجرته شركة “أوريكون” اليابانية في سنة 2008 عن أكثر مانجا مؤثرة، احتلت “وَن بيس” المركز الأول لكلا من فئة الذكور والإناث. هذا على الرغم من خلوها من علاقات الحب الرومانسية بين الشخصيات، لأنها بحسب “أودا” مانجا من إصدار “شونين”، والفتيان الذين يقرؤونها لا يهتمون بقصص الحب.
ثالثًا، السرد: بجانب القدرة على ابتكار أحداث حديَّة ومثيرة تدفع الأدرينالين في عروق القارئ، وصنع أجواء من المرح المليء بالطاقة المتفجرة والمشاعر الفياضة، فـ “أودا” لديه قدرة استثنائيَّة على سرد قصص غنية بالتفاصيل والتشابك دون السقوط في فخ الحبكات زائدة التعقيد. ويستخدم في ذلك تقنيات سردية مثل تقنية الفلاش باك التي يعتمد عليها بكثافة، والإعادة من زاوية سردية مختلفة بشكل طفيف. كما أنه يزرع عناصر سردية داخل سير القصة، ويرجع إليها بعد منحنيات سردية عديدة (ممكن أن تصل لسنوات)، وترتبط بالتواء مفاجئ في الحبكة، مما يثير إحساسًا بالترابط الممتد للقصة ككل والتكشُّف المفاجئ للعالم.
ربما اكتسب “أودا” المحب للمانجا والسينما، تلك المهارات من فن “الراكوجو” الذي يحبه أيضًا. “راكوجو” تعني حرفيًا “قصة بسقطة”، وهي نوع من الفن الترفيهي الياباني التقليدي، يقدمه حاكي القصة بمفرده على المسرح، باستخدام أدوات بسيطة مثل مروحة ورقيَّة “سينسو”وقماشة صغيرة “تينوجوي”، وهو جالس ثابتًا على الأرض. يستعرض فنان “الراكوجو” قصة طويلة ومعقدة كوميديَّة أو عاطفيَّة، تتضمن حوارًا بين شخصيتين أو أكثر، يقوم بالتمييز بينهم الفنان عن طريق طبقة ونبرة الصوت، واستدارة طفيفة بالرأس. ينتهي المونولوج دومًا بقفلة تُسمَّى “أوتشي” بمعنى سقطة أو “ساجي” بمعنى تخفيض، وهي توقف مفاجئ لاسترسال اللعب بالكلمات.
رابعًا، الغموض والعنف والفكاهة:
هناك عناصر جذب سرديَّة أساسيَّة في المانجا، يستخدمها “أودا” بكفاءة عاليَّة، منها الغموض الذي يعتمد على حجب الكثير من المعلومات المهمة عن الشخصيات والأحداث، وإعطاء فقط بعض التلميحات غير الكافية، تصل إلى الحد الأدنى في بعض الأحيان، حتى يأتي الدور على الشخصية أن تُذكر قصتها، فتتكشَّف المعلومات الناقصة لتفتح المجال لأمور غامضة أخرى جديدة.
بجانب الغموض هناك عنصر العنف المضخَّم بشدة، وهو القاسم المشترك مع الكثير من المانجات اليابانيَّة الناجحة. المثير في حالة “وَن بيس” أن هذا كله موضوع في قالب طفولي به لمسة كبيرة من البراءة، يخففه عنصر آخر يعمل كعامل جذب أساسي للسلسلة، هو حس الفكاهة والمرح، والقدرة العجيبة على مزجها بالعنف واللحظات الدراميَّة العالية، ما كان غريبًا وقت ظهور السلسلة، وكان مصدر تشكك كبير للمحررين والمنتجين، لكن مع الوقت أثبت “أودا” أنه صاحب إبداع مميز في هذا المزج الذي أصبح أكثر انتشارًا الآن.
خامسًا، الجانب البصري:
إذا نحّينا مسألة الألوان الجذابة البرَّاقة للأنمي والبراعة عمومًا في صنعه وإخراجه، فالاهتمام البصري بالتفاصيل والكادرات يظهر بوضوح في المانجا، التي يتأثر تصميم الشخصيات فيها بالمدرسة الأمريكيَّة أكثر من اليابانيَّة التقليديَّة. كما أن الخلفيات والمناظر غير مرتبطة بنقطة زمنية معينة، مما سهَّل ارتباط القرَّاء من جنسيات مختلفة بالسلسلة.
كما أن هناك تراوحًا في ملامح الشخصيات مع الوقت، ربما بحسب السياق والتأثير الذي يريد “أودا” صنعه. فشخصية مثل “زورو” مثلًا تظهر كارتونيَّة مبهرجة في لقطة، ورجل سيف جاد في التالية، و**”لوفي”** يمكن أن يظهر كشخص أكثر نضجًا في نقطة ما ليرجع مرة أخرى على هيئة أقرب لطفل، إلخ…
الخيال يُغيِّر الواقع
كتب “أودا” في قصة “تماثيل كوماموتو” أن طاقم “لوفي” نزل في “كوماموتو” ورأوا الدمار الملحق بها فقرروا المساعدة. أرسل “لوفي”أعضاء طاقمه في أنحاء المحافظة، وبذلك أصبح كل تمثال عُمل لهم، يشرح للزائرين معلومات عن المنطقة والدمار الذي مُنِع بفعل الزلزال.
هناك، في الواقع، ثمانية تماثيل أخرى لشخصيات من سلسلة “وَن بيس” في مواقع متفرقة من المحافظة. ليس هذا فقط، فهناك أبطال أولمبيون من جنسيات مختلفة قاموا بعمل وضعيات من “وَن بيس” في الألعاب الأولمبية بـ “طوكيو”، كإشارة لكونهم من معجبي السلسلة.
هذا التأثير الكبير في الواقع، ليس له جانب إيجابي فقط، سواء الاحتفاء بالثقافة اليابانيَّة، أو تعلم القيم النبيلة مثل الصداقة والمروءة والشجاعة والإصرار، أو التسلية بقصة ممتدة لها خطوط أحداث متشابكة، بل هناك تخوُّف من الجانب السلبي له أيضًا، خصوصًا في المنطقة العربيَّة.
فهناك تحرُّر في الملابس والسلوك عند الشخصيَّات الأنثويَّة، وشخصيات تتماس مع المثليَّة والعبور الجنسي والكويريَّة، وهناك إشارات إلحاديَّة ولا دينيَّة، تثير القلق أن يتأثر بها الأطفال والنشء غض التكوين.
كما أن هناك، بشكل مبطن، عبادة للقوة وتطبيعًا للعنف الزائد وميلًا إلى الإبهام الأخلاقي (أبطال “وَن بيس” مثلًا قراصنة، أي مجرمون). وهناك تخوُّفات من الوقت الزائد المقضي في متابعة حلقات الأنمي، فمسلسل “وَن بيس” فوق الألف ومئة حلقة بمتوسط 20 دقيقة للحلقة الواحدة، مما يجعل النشء وأيضًا البالغين في انفصال عمَّا حولهم، جالسين في غرفهم بالساعات ليتابعوا الحلقات القديمة والجديدة، مما يسبب العزلة الاجتماعيَّة وتدهور مهارات التواصل.
هذا هو التأثير الطاغي لخيال “إييتشيرو أودا” سان.