عندما نتحدث عن التسوق، غالبًا ما نفكر في الأنشطة اليومية الرتيبة، كتصفح المنتجات في الرفوف أو التفاعل مع البائعين، ولكن ماذا لو كانت تجربة التسوق أكثر من ذلك؟ ماذا لو استطاعت أن تتحول إلى رحلة تعليمية، مليئة بالاكتشافات والمعرفة؟ في هذه اللحظة تحديدًا، يمكننا استحضار مفهوم الفيلسوف جون ديوي عن “التعلّم من خلال التجربة”، الذي يؤكد أن التجارب اليومية يمكن أن تكون ذات قيمة تعليمية حقيقية إذا نظرنا إليها من الزاوية الصحيحة.
لنتأمل في فيلم “The Secret Life of Walter Mitty”
حيث يتحول التسوق من مجرد نشاط إلى مغامرة مليئة بالخيال والاكتشافات. مشهد والتر وهو يتصفح المجلات لا يمثل مجرد تسوق، بل هو نافذة لعوالم أخرى، تنقله عبر الخيال إلى أماكن بعيدة. هنا يبدأ السؤال: هل يمكن للتسوق أن يكون مغامرة مشابهة، حيث يتم اكتشاف الثقافات والأفكار الجديدة أثناء اختيار الأشياء من الرفوف؟ الإجابة تكمن في الاستعداد لرؤية الأشياء الصغيرة على أنها نوافذ لمعارف أوسع.
من خلال النظر إلى عملية التسوق كنوع من البحث والاكتشاف، نستطيع أن نحول هذه التجربة إلى مساحة لتعلم جديد. تساءل سقراط: “ما هو الأفضل للإنسان؟”، وكانت إجابته غالبًا ما تدور حول الفضول والتساؤل المستمر. وهنا، يمكن تطبيق فلسفة سقراط حتى في ممرات السوبرماركت.
لماذا نختار هذه العلامة التجارية دون أخرى؟ ما هو مصدر هذه المنتجات؟ وكيف تؤثر على البيئة أو الاقتصاد المحلي؟
كل عنصر نشتريه له قصة خلفه، وكل قصة تحتوي على درس أو فكرة تتطلب التفكير والتساؤل.
يمكن أن يكون التسوق فرصة لطرح الأسئلة والتعرف على الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، عند شراء فاكهة غير مألوفة من بلد بعيد، يمكن أن يؤدي هذا إلى تساؤل حول عادات الأكل في ذلك البلد، أو حتى البحث عن التاريخ الاقتصادي المرتبط بتصدير تلك الفاكهة. هكذا، يتحول المتسوق إلى باحث صغير، يستخدم فضوله لاستكشاف العالم من حوله.
في رواية “السيد بينس” لجون غالزورثي، نجد أن بطل الرواية يتعامل مع متجره على أنه جزء من حياته الخاصة، ويتفاعل مع كل زبون كأنه يشارك في مغامرة مشتركة. هذا الشعور بالانتماء والتفاعل مع الزبائن يجعل من عملية التسوق شيئًا أكبر من مجرد تبادل مادي، بل تصبح تجربة تعليمية واجتماعية.
التسوق، من منظور غالزورثي، يصبح نشاطًا يحمل في طياته إمكانيات التعلّم من الآخرين ومن التجارب.
في السينما، فيلم “You’ve Got Mail”
يُظهر لنا كيف أن التسوق يمكن أن يكون نافذة للتفاعل مع أشخاص آخرين، حيث يتحول المنافسون في عالم التجارة إلى شركاء في حوار أعمق حول الكتب والحياة.
هنا، التسوق ليس فقط تجربة لشراء الكتب، بل تجربة للتعرف على أفكار جديدة، ومناقشتها، وربما حتى تحويلها إلى محادثات فلسفية.
من خلال التسوق، نكون قادرين على تبادل الأفكار والمعتقدات مع الآخرين، والتعلم منهم بطرق غير متوقعة.
إذا أخذنا خطوة إلى الوراء وتأملنا في اختياراتنا الاستهلاكية من منظور فلسفي، سنجد أن عملية التسوق تكشف عن قيمنا وأولوياتنا.
الفيلسوف الفرنسي جان بودريار يناقش في “مجتمع الاستهلاك” كيف أن السلع والمنتجات التي نختارها تعكس هوياتنا وتشكل تفاعلاتنا الاجتماعية.
التسوق يصبح بذلك نوعًا من التواصل مع الذات ومع الآخرين. يمكن أن نفكر في كل عملية شراء كجزء من حوار داخلي حول: من نحن؟ وما نريد أن نكون؟
قد يتساءل شخص ما: لماذا أختار المنتج العضوي بدلاً من المنتج العادي؟
هذا الاختيار ليس مجرد قرار صحي، بل هو موقف فلسفي يعبر عن احترام للطبيعة والبيئة. وبالتالي، التسوق يصبح ساحة لتفعيل القيم والمبادئ، وتحويل ما قد يبدو نشاطًا ماديًا بحتًا إلى تجربة ذات عمق فلسفي.
من ناحية أخرى، يمكن للتسوق أن يكون فرصة للتواصل الاجتماعي، حيث يتيح التفاعل مع البائعين والعملاء الآخرين التعلم من تجاربهم وآرائهم. في هذا الصدد، يمكننا أن نستعيد نصوص الفيلسوف إيمانويل كانط حول “المجتمع المدني”، وكيف أن الإنسان يتعلم من خلال التواصل مع الآخرين.
عندما نقوم بالتسوق، نحن لا نتفاعل فقط مع المنتجات، بل مع الأشخاص وراء هذه المنتجات، والذين قد يكونون مصدرًا لمعلومات جديدة أو أفكار غير متوقعة.
مثال آخر من الأدب هو رواية “آنا كارنينا” لليو تولستوي، حيث نشاهد آنا تقوم بشراء المجوهرات والملابس، ولكن ما يتجاوز هذه الأفعال هو الفلسفة التي تكمن وراء تسوقها. التسوق بالنسبة لها ليس مجرد نشاط روتيني، بل انعكاس لرغباتها النفسية والداخلية، ورؤية لطبيعة حياتها الاجتماعية.
يمكننا النظر إلى التسوق على أنه شكل من أشكال التربية الذاتية.
عندما نختار منتجًا أو نتفاعل مع فكرة جديدة أثناء التسوق، نكون في حالة تعلّم.
في هذه اللحظة، التسوق يصبح جزءًا من عملية أكبر لاكتساب المعرفة، وليس فقط وسيلة لتلبية الاحتياجات اليومية.
الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون يؤكد في أعماله أن:
“التعلم يأتي من كل تجربة، حتى تلك التي تبدو عادية.”
إذًا، كيف يمكن أن نعيش هذه التجربة بطريقة ممتعة؟
الإجابة تكمن في تغيير نظرتنا، وتحويل كل زيارة للسوق إلى فرصة للتعلم، سواء كان ذلك من خلال البحث عن مصادر المنتجات أو التفكير في قيمتها الثقافية والاجتماعية.
التسوق، في نهاية المطاف، هو أكثر من مجرد شراء الأشياء. إنه رحلة تعليمية مفتوحة لا تنتهي.