⁠العاشرة مساءً
٨٣٥ كلمة
٠ تعليق

فاز اللاعب الإسباني رودري بجائزة “البالون دور” أو الكرة الذهبية ليتوج أفضل لاعب كرة قدم في العالم لعام 2024، في حدث لم يكن مفاجئًا لكثير من المتابعين، فبحسب المعايير الجديدة التي اختارها المسؤولون عن كرة القدم العالمية أصبحت الجوائز الفردية مقترنة بشكل كبير بالبطولات الجماعية.

إلا أن ما يفضله متابعو كرة القدم لا يتفق مع تلك المعايير، وذلك ما جعل جزءًا كبيرًا من جمهور كرة القدم حول العالم يهزأ من اختيار رودري كأفضل لاعب كرة قدم في العالم على حساب البرازيلي فينيسيوس جونيور، والذي لا خلاف تقريبًا على أنه الأعلى موهبة بين أبناء جيله.

ذلك ما يحيلنا إلى التساؤل: كيف أصبح لاعب محدود الإمكانيات مثل رودري هو أفضل لاعب كرة قدم في العالم؟ وما دور النظام الرأسمالي الذي ابتلع اللعبة في هذا التحول الغريب؟

مارادونا: أسد السيرك المتمرد

بلا شك، كان أسطورة كرة القدم الأرجنتيني مارادونا هو اللاعب الأكثر إثارة للجدل في تاريخ اللعبة، بسبب تاريخه الطويل الحافل بالأزمات والمواقف المتمردة على المستويين الفردي والسياسي.

إذ كان مارادونا معارضًا بشكل عميق للواقع السياسي المعاصر لزمانه، بخلاف هجومه الدائم على رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم آنذاك، السويسري سيب بلاتر، إذ لطالما وصفه بأنه رجل رأسمالي جشع وفاسد لا يهتم سوى بالأرباح المالية، وهو ما أثّر سلبًا على جودة اللعبة.

وقد دفع مارادونا أثمانًا باهظة نتيجة مواقفه المعادية للسياسات الرأسمالية للـ فيفا، حيث اُستُبعد تمامًا من كافة المحافل الرسمية التي يقيمها الاتحاد الدولي، رغم قيمته العظيمة.

لكن، هل كان مارادونا محقًا في مواقفه وتصريحاته المتكررة المناهضة لسياسات الاتحاد الدولي لكرة القدم عمومًا ورئيسه سيب بلاتر خصوصًا؟

سيب بلاتر: مهندس صناعة كرة القدم

أُنتخب سيب بلاتر رئيسًا للاتحاد الدولي لكرة القدم لأول مرة عام 1998، السنة التي شهدت انطلاق حقبة جديدة من تاريخ اللعبة. فالرجل السويسري، الذي درس إدارة الأعمال والاقتصاد بجامعة لوزان السويسرية، لم يلعب كرة القدم في حياته، ولا يُذكر أنه كان حتى مشجعًا مهتمًا باللعبة في فترات صباه وشبابه. غير أن المؤكد والمعروف عنه أنه يعرف جيدًا كيف يدير مشروعًا اقتصاديًا، ويجني من ورائه أموالًا طائلة.

شهدت فترة رئاسته تغييرًا جذريًا للعبة الشعبية الأولى في العالم، حيث عمل طوال فترة إدارته على تعزيز نفوذ الرأسمالية وسلطة السوق الحرعلى كافة نشاطات اللعبة.

كانت البداية من البطولة الأهم عالميًا، وهي كأس العالم، حيث شهدت نسخة عام 1998 أول تجربة احتكار للبث التلفزيوني الخاص بالبطولة في التاريخ.

وتعاظمت حقوق البث التي تستفيد منها “فيفا” بمرور النسخ بشكل كبير، يظهر ذلك جليًا في الفارق بين قيمة حقوق البث التلفزيوني لنسخة 1998، التي كانت تُقدّر بـ 107 ملايين دولار، وقيمة النسخة الأخيرة من البطولة ذاتها عام 2022، التي وصلت إلى نحو 5 مليارات دولار.

لم يكتفِ بلاتر بتعظيم عوائد البث التلفزيوني فقط، بل اتجه إلى بيع كرة القدم في الأسواق كسلعة رأسمالية خالصة، حيث بدأ بعقد شراكات وإبرام عقود رعاية مع كبرى العلامات التجارية العالمية. وقد صرّح بلاتر في هذا الصدد قائلًا: “الرعاة هم شركاؤنا في النجاح، بدونهم لا يمكننا تحقيق أهدافنا.” تلك السياسة التي تطرح العديد من التساؤلات حول حجم نفوذ الشركات الراعية، التي تدر مليارات الدولارات، في اتخاذ قرارات الاتحاد الأكثر إثارة للجدل.

ومثله مثل أي رأسمالي جشع، كان سيب بلاتر فاسدًا، فقد وُجّهت إليه العديد من الاتهامات بالرشوة من أجل منح تنظيم كأس العالم إلى دول بعينها، ما أدى في النهاية إلى إبعاده عن منصبه عام 2015، لتنتهي إدارته الشخصية لكرة القدم العالمية، وتستمر سياساته ذاتها من خلال تلميذه ومواطنه جياني إنفانتينو، الذي تولى المنصب خلفًا له.

رودري: هذا من يُمثلنا

انعكست سياسات بيع كرة القدم إلى المستثمرين والشركات الكبرى على جودة اللعبة بلا شك، حيث أصبحت الغاية النهائية من ممارسة كرة القدم هي الفوز بأكبر عدد ممكن من البطولات من أجل الاستفادة من المكافآت المالية الضخمة وعقود الرعاية وغيرها. وقد ساهم في ذلك اتجاه عدد كبير من رجال الأعمال إلى الاستثمار بشكل مكثف في اللعبة سعيًا للأرباح.

ثم أخذت تتحول كرة القدم تدريجيًا إلى التقنية الشديدة في جانبها الفني، ذلك ما يفسّره توسع الأجهزة الفنية للأندية والمنتخبات في استقدام محللين يعتمدون على الأرقام وعلوم البيانات في تحليل أداء اللاعبين والفرق. ونتيجة لذلك، أخذ التقدير القديم للاعب الموهوب ذو اللمسة الجمالية الساحرة يتلاشى شيئًا فشيئًا.

فبات اللاعب الذي يمكن قياس جودته عقليًا بالأرقام أهم وأفضل من اللاعب الذي تُقاس جودته من خلال المتعة الحسية أثناء مشاهدته.

هذا ما يفسر تتويج لاعب وسط ملعب مدافع مثل رودري بجائزة أفضل لاعب في العالم، فلم يكن ذلك ممكنًا دون حساب عدد مرات قطع الكرة، أو عدد تدخلاته الصحيحة، أو حتى كم مرة استطاع أن يتمركز فيها بشكل جيد.

لكن ذلك ليس الجانب الوحيد من المسألة، فـ الشركات الراعية للبطولات الكبرى لها دور في ذلك أيضًا. فغالبًا ما تكون العلامات التجارية الراعية للاعبين بعينهم هي نفسها العلامات التجارية الراعية لبطولات الاتحاد الدولي، وبالطبع سيساهم فوز اللاعب الذي ترعاه شركة ما بجائزة أفضل لاعب في العالم في تعزيز القيمة السوقية للشركة، وذلك ما يضع علامات استفهام كثيرة حول مبدأ النزاهة وتضارب المصالح في منح جائزة الكرة الذهبية.

كانت تلك المسيرة التي انحرفت نحوها كرة القدم خلال العقود الثلاثة الأخيرة كافية لأن تحوّل الرياضة الشعبية الأولى في العالم إلى منتج رأسمالي بحت، تتحكم فيه سياسات السوق والعرض والطلب بشكل حصري، وينتهي عصر ارتباطها بالفقراء، حتى إشعار آخر.

شارك هذا الـمقال