⁠العاشرة مساءً
١٧٣٢ كلمة
٠ تعليق

في أمسية 27 يناير عام 98 ميلادية ، دخل تراچان لأول مرة إلي قاعة الحكم بصفته إمبراطور روماني مطلق، بعد وفاة شريكه في الحكم ماركوس نيرڤا. كان مشهد مهيب، لكنه في الحقيقة لم يعر المراسم أي انتباه حقيقي، كان يغمره الوجوم متسائلا عن ثقل عرش كهذا، فوق اتساع من شمال بريطانيا إلى أطراف الصحراء الكبرى، ومن المحيط الأطلسي إلى بلاد ما بين النهرين، كان يفكر كيف سيحكم دون بطش حوالي ٧٥ مليون شخص، أي ما يعادل خمس سكان العالم. لا لم يكن يرغب في انتهاج شرعية العنف، بل ان يبقي ملك ملوك الأرض محبوبا و مبجلا، لأنه رأس الدولة المثال،ولأنه كان يدركها كأول دولة تنجح في ترسيخ حقيقي للمدنية القائمة علي المواطنة ، ثقافة حية من مزيج يوناني لاتيني، متوجا بإرث من الشعر والفن والفلسفة، يحميها الدستور، تغذيها التكنولوجيا الهائلة والعلوم والهندسة، و كل تلك الأعراق تعيش معا في انصهار ومساواة. ببساطة لم يكن العنف خياره فيما لم يسبق أن كان ثمة هذا الإختراع المسمي جمهورية! كان تراچان يقاوم رجفة، ستلازمه للأبد وستجعله بالذات أحد “الأباطرة الخمسة الصالحين”.

في لحظتنا الحالية بعد حوالي ألفي عام، سنتفهم تماما أن روما كانت بالفعل حدثا مدهشا في تاريخ الزمان، بكل ما قد يشي به ذلك من جمال وقبح على حد سواء، تصل الجرأة ومؤرخي عصر التنوير النهمين لشرعية الحضارة، أمثال إدوارد جيبون أن يجرؤوا علي وصف ذلك العصر بأنه “الأكثر سعادة” في تاريخ جنسنا البشري – وبالمثل سيجد مؤرخ ستانفورد يان موريس دليلا على أن سقوطها كان أكبر نكسة في تاريخ الحضارة البشرية!

أيا ما كان مقدار اتفاقنا مع تصور الرومان عن أنفسهم وتصور دارسو الغرب عن روما، فيجب بداية ان نتفق ان التداعي المخزي لهذه الدولة لم يكن مسارا معياريا على الإطلاق، فبعد أقل من اربعة قرون من تلك الليلة البيضاء التي قضاها تراچان منتشيا بالعظمة، تم خلع آخر إمبراطور روماني غربي وهو طفل يبلغ من العمر حوالي عشر سنوات، يُدعى رومولوس أوغستولوس، ويعتبر التاريخ 476 ميلادي هو نقطة النهاية والذي بعده تحولت الإمبراطورية الرومانية إلي دولة بيزنطية، تسيطر عليها القسطنطينية، وتتآكلها حملات المسلمين من الشرق، بعد أن تآكلت شقها الغربي أخلاط القبائل الجرمانية، كسدت تجارتها، أنهكتها الحروب الأهلية، وتساقط سكانها فريسة المرض والجوع، وبحلول القرن السابع ميلادي كانت شمال أفريقيا كلها قد سقطت في أيدي الفرسان العرب.

لماذا سقطت روما ؟ هذا هو أحد أكثر أسئلة التاريخ كلاسيكية، بل وتأتي الإجابات مسهبة و ملتاعة، فيدرج المؤرخ الألماني الكساندر ديماندت أكثر من مائتي سبب لانحدار العالم الروماني، ويبدو لي مدى تأثره بالنظرة المعاصرة لعلم الإجتماع السياسي، وهو نهج شائع لكنه غير سديد بالضرورة، فلا يمكن أن يُعزى انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية فقط إلى تصاعد غارات الچرمان، والذي يلوح كنتيجة و سبب في آن كثعبان يأكل ذيله، أو إلى عامل مباشر كالركود الاقتصادي، أو إلى شيء غامض مثل تراجع المسؤولية المدنية وضعف الحكومة، وحتى التحول إلى المسيحية وهو السبب الذي يحبه أبناء عصر الأنوار لا يمكنه أن يثلج صدورنا كمبرر يقوم بذاته. هذه العوامل جميعا ومعا كانت بالفعل متورطة في عملية الانهيار، ولكن روما كانت مثالا فريدا في جغرافيتها وأنماطها الديموغرافية بشكل يجعل من المستحيل غض الطرف عن احتمالية كونها كانت تدفع تكلفة الجشع غاليا، و احتمال أن غضب الطبيعة كان هو الفاعل الرئيسي في هذه الملهاة بشكل ما. في حالة روما بالذات كان أمر تدهور المناخ و الطواعين شيئان لا يمكن نكران تأثيرهما، والعديد من الأوراق البحثية الجيدة قد تمكنت بالفعل من اثبات تلك الحقيقة في العقد الأخير، أشهر تلك الدراسات هي ورقة جون بروك الواسعة النطاق المنشورة عام 2014، والتي أرجع فيها كل شيء إلى ثالوث الحرب والأمراض الوبائية وتغير المناخ، ولكن السؤال الأصعب هنا هو كيف كان المناخ يلعب هذا الدور؟ بأي تسلسل بارع وخبيث؟ هل كان الحكام الرومان أنفسهم يدركون ضد أي شيطان يلقون بالنرد حين يبسطون نفوذهم الجغرافي بمثل هذا الجنون؟ هل كان لديهم أي فكرة عن الأسس البيئية الطارئة لما بنوه؟

حتى عهد قريب، لم يكن بحوزتنا غير عدد محدود جدا من البيانات المناخية القديمة ، وبالتالي كان هناك هذا الافتراض أن المناخ قد تغير قليلاً منذ تغيير نمط التشمس بعد العصر الجليدي الأخير. ومع ذلك ، فقد كشفت السجلات الحفرية من مواقع مختلفة أن مناخ الهولوسين كان في الواقع يتذبذب باستمرار، وأن الاضطرابات البيئية والغذائية الناجمة عن ذلك التقلب كانت بالفعل تلعب أدورا حضارية أخطر كثيرا مما كنا نظن سابقا، ولذلك فنحن هنا بصدد التروي وإعادة النظر إلي دليل مثل تغير الغطاء النباتي المسجل في مقاطعات الجمهورية الرومانية. يشير عالم الطبيعة بليني الأكبر إلى أن أشجار الزان ، التي تنمو عادة في الأراضي المنخفضة ، أصبحت نباتات جبلية في القرن الأول الميلادي وهو ما يتوافق مع ما ترويه السجلات الضريبية من تغير نمط زراعة الكروم الروماني في بريطانيا، وذلك بالذات دليل لا يمكن الاستخفاف به لما يشكله المناخ من أهمية جوهرية للزراعة وخاصة محصول كالكروم، وما تشكله الزراعة بدورها في صلب بنية الدولة الرومانية واستقرارها. كانت هذه هي البداية فقط فنحن نعرف أنه منذ منتصف القرن الثاني الميلادي، بدأ واحد من أكثر المنعطفات المناخية دراماتيكية في الهولوسين بأكمله، فيقترح كايل هاربر في كتابه ” مصير روما”- المنشور عام 2017- فترة من الفوضي المناخية في غرب أوروبا بين حوالي عام 250 م – 450 م تقريبًا، عرفت بالعصر الروماني الدفيء Roman climate optimum. يفسر الكاتب ببراعة بأن البشر كانوا دائما غير مؤهلين عقليا لاستيعاب تغير بيئي بطيء ومتراكم استمر لمائتي عام، ومايزيد الأمر سوءا أنهم كانوا ايضا لا يهتمون بتجارب اخوانهم المواطنين الرومان في المقاطعات البعيدة التي لا تمس مباشرة حياتهم اليومية، وهذه هي تحديدا لعبة تغير المناخ.. يقتلنا باستخدام الوقت ومن خلف ستار!

في الآونة الأخيرة، جادل بعض العلماء بأن ما ترافق مع فترة العصر الروماني الدفئ كان موجات جفاف قاتلة في آسيا الوسطى و بوار وصقيع غير مسبوق في شمال غرب أوراسيا. ربما كان هذا في الأصل ما دفع كل هذه القبائل الجرمانية والقوط والهون إلى الانتقال إلى الإمبراطورية الرومانية، مما أثار فترة الهجرة وأدى في النهاية إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية. لكي تفهم ما أقصد حين اتحدث عن ارتباط الهجرات بالسقوط، أدعوك إلى مفاضلة بسيطة مع شيء حدث لاحقا، بعد حوالي ألف عام من سقوط روما، أقصد هجرات المغول تحت حكم زعيمهم جنكيز خان نتيجة التغير المناخي في آسيا الوسطى. مجددا يحدثنا كتاب لبريان فاجان يحمل عنوان «الاحتباس الحراري العظيم» عن تحولات الغطاء النباتي، وكيف أن السهوب والصحاري في الواقع تكون فائقة الحساسية لأدق التغيرات في معدل هطول الأمطار، ينجذب البدو إلى وعودها بأراضي الرعي

و الماء في مواسم السيول؛ وعندما تعود الظروف الجافة، يتم طرد البدو وقطعانهم إلى الهوامش.شكل هروب المغول من مراعيهم القاحلة نحو التلال الوارفة في إيران وأذربيجان ثم العراق والشام المقوم الأساس في سحق دولة العباسيين والتنكيل برعاياها، كما شكلت

أكبر موجة من الهجرات البشرية في تاريخ العصور الوسطي، ومنها كانت هجرات التركمان من وسط آسيا أيضا ، ومن هؤلاء ظهرت أسرة أرطغرل غازي وابنه عثمان ودولتهما فيما بعد.

علي الأرجح كان هذا السيناريو مشابه بشكل مريب لما حدث أثناء هجرة الهون في القرن الخامس، والذي تسبب في نهاية المطاف إلي رفع تكلفة الحفاظ علي بنية الدولة الرومانية، في ظل معمعة من التعقيد: حروب أهلية، دفاع ضد البرابرة، انهيار زراعي وضريبي، وأمراض وبائية، إذا يصبح الضغط المناخي هو تفسير محتمل للانحدار طويل الأمد والانهيار النهائي للإمبراطورية الرومانية في الغرب. تبين لنا سجلات المناخ القديم أن المناخ الملائم كان بطرق خفية وعميقة، متغلغلًا في أعمق بنية الإمبراطورية منذ البداية وأن نهاية هذا النظام المناخي المحظوظ لم تكن بأي معنى حتمي بسيط، تعني هلاك روما. وبدلاً من ذلك، قوض المناخ الأقل ملاءمة قوتها عندما تعرضت الإمبراطورية للخطر من قبل أعداء أكثر خطورة من الخارج.

“لقد حسم مصير روما الأباطرة والبرابرة، وأعضاء مجلس الشيوخ والجنرالات، والجنود والعبيد. ولكن قضت عليها بالتساوي البكتيريا والفيروسات والبراكين والدورات الشمسية. “

كايل هاربر ٢٠١٧

في القرن السادس، أثناء عهد الإمبراطور جستنيان،

بلغ عدم الاستقرار المناخي ذروته،

 فالتسلسل الزمني للشجيرات وسجلات الجليد توضح تبريد ما يسمي “العصر الجليدي الصغير المتأخر” (450-700م)، عندما استمرت درجات الحرارة الباردة لمدة 150 -250 عامًا على الأقل. هذا التبريد كان مرتبط بتشنج هائل في النشاط البركاني في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الخامس الميلادي، على عكس أي شيء آخر في بضعة آلاف من السنين السابقة. في عام 2012، قام فريق بقيادة مايكل ماكورميك بمعايرة مثيرة للأعجاب بين المسارات المناخية للنصفين الشرقي والغربي للإمبراطورية الرومانية ثم استنتجوا أن تدهور المناخ قاد كلا الحالتين لنفس المصير المذري، و المدهش أنه كان يفعل ذلك في الشرق بشكل عكسي ،أعني انه سلك مسار البرودة هذه المرة، ويبدو هذا مضحكا وكأن التقلب المناخي كان بالفعل يسخر من الرومان. حسنا، الأمر ليس بهذه البساطة والمباشرة ولكن دعنا نضع الأمر كالتالي: إذا فقدت الإمبراطورية مرونتها من خلال التغيرات المجتمعية، فإن الظروف البيئية المعاكسة هي المسؤولة في نهاية المطاف عن سحب قطعة الدومينو، ولا داع للقول أن كفة الميزان قد تأرجحت في اتجاه القوى البيئية. يعزو بروك ميلًا متأصلًا، وحتى حدسيًا، لدى المؤرخين لتفضيل الفاعلية البشرية على القوى الطبيعية في عملية التغيير في المجتمعات البشرية، ولكن الوضع الآن لم يعد يسمح إلا بالتساؤل عن جدوي الاستمرار في ذلك المنهج. لقد كان مسرح الحضارة مهيأ بشكل مثالي ليستمر العرض ، الذي كان يجب أن ينتهي بالتصفيق الحاد في نهايات كل فصل، لكن ما كان يحدث هو العكس؛ هو التصاعد الملحمي لسير الأحداث ثم انهيار السقف على الجمهور، ما يلبث هذا الجمهور نفسه أن يعيد ترميم المسرح ثانية من أجل العرض الجديد الذي لا يكتمل بدوره. الحقيقة هو أننا عجزنا دائما عن فهم النمط الكامل للتحلل. عشرات الأسباب الكامنة تتضافر معا في الخلفية وتأبي أن تكشف عن نفسها ببساطة ولهذا فسرديات تتجنب الشعور بخيبة الأمل أو بالخطر و بفقدان السيطرة هي نوع من الدعابة لأنها معادلة غريبة من الأصل، قد يكون عامل محفز فيها شيء غير مألوف مثل تغير انحراف مدار الشمس أو بركان ما في بقعة نائية أو حتى وباء غامض ما في وقت حساس. يبدو هذا محرج و مدهش.

Brooke, J.L. Climate Change and the Course of Global History: A Rough Journey, 1st ed.; Cambridge University Press: New York, NY, USA, 2014; 654p, ISBN-10 0521871646, ISBN-13 978-0521871648.

Gibbon, E. The History of the Decline and Fall of the Roman Empire, 1st ed.; Printed for W. Strahan and T. Cadell; Strand: London, UK; Volume I–VI, pp. 1776–1788.

Harper, K. Fate of Rome: Climate, Disease, and the End of an Empire, 1st ed.; Princeton University Press,

The Princeton History of the Ancient World: Princeton, NJ, USA, 2017; 417p, ISBN-10 0691166838, ISBN-13978-0691166834.

McCormick, M.; Buentgen, U.; Cane, M.A.; Cook, E.R.; Harper, K.; Huybers, P.; Litt, T.; Manning, S.W.;

Mayewski, P.A.; More, A.F.M.; et al. Climate change during and after the Roman Empire: Reconstructing the

past from scientific and historical evidence. J. Interdiscip. Hist. 2012, 43, 169–220. [CrossRe]

Fagan, B. The Great Warming: Climate Change and the Rise and Fall of Civilizations, 1st ed.; Bloomsbury Press:New York, NY, USA, 2008; 282p, ISBN-101596913924, ISBN-13 978-1596913929.

شارك هذا الـمقال