عندما نجلس لمشاهدة فيلم، قد تبدو التجربة في البداية غامرة تمامًا: الألوان المتحركة، الموسيقى، الحبكة، كل شيء يتعاون ليجعلنا ننسى للحظة واقعنا الخاص. لكن ماذا لو كان بالإمكان تحويل تلك اللحظات السينمائية إلى تدريب على التفكير النقدي؟
هنا يأتي السؤال الفلسفي: كيف يمكن للفيلم أن يكون أداة للتأمل والنقد، وليس مجرد وسيلة للترفيه؟
الفلسفة دائمًا ما كانت مهتمة بالصورة والتمثيل.
أفلاطون، في “الجمهورية“، كان قلقًا من أن الفن، بما فيه المسرح، يمكن أن يُضلِّل الناس من خلال تمثيل الواقع بدلًا من كشفه.
ولكن، على عكس أفلاطون، يمكن أن نعتبر الفيلم أداة لتفكيك الواقع وتحليل المعاني الخفية.
عند مشاهدة فيلم مثل “Inception” لكريستوفر نولان، نحن أمام طبقات متعددة من الواقع والأحلام.
الفيلم، بتعقيداته الزمنية وسرده المتشعب، يشجع المشاهد على التفكير في طبيعة الحقيقة:
ما هو الحقيقي؟ وما هو الوهم؟
هذا النوع من الأفلام يتطلب منا التفكير في كل مشهد وكأنه لغز فلسفي، ويقدم فرصة لممارسة التفكير النقدي من خلال تحليل الطبقات المخفية.
الفيلم بهذا المعنى يصبح ليس مجرد تجربة سلبية نتلقاها، بل دعوة للمشاركة الفعّالة.
هنا، يمكننا استحضار الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي أشار إلى أهمية “تفكيك” النصوص والأفكار لفهمها بشكل أعمق.
من خلال تطبيق هذا المبدأ على الأفلام، يمكن للمشاهد أن يبدأ في تحليل الفيلم ككل، وفهم ما يتجاوز الحبكة الظاهرة، مثل الرسائل الأيديولوجية أو الرمزية الثقافية.
إذا عدنا إلى فيلم “The Matrix”،
سنجد أنه ليس مجرد فيلم خيال علمي، بل هو استكشاف فلسفي لنظرية المعرفة.
من خلال مشاهدته، يمكننا استدعاء نقاشات فلسفية حول ما إذا كان ما نراه هو الواقع بالفعل، أم مجرد نسخة مشوهة منه.
الفيلسوف رينيه ديكارت كان له سؤال مشابه:
“كيف يمكنني أن أكون متأكدًا من أن هذا العالم الذي أراه هو حقيقي؟”
هذه التساؤلات الفلسفية القديمة يمكن أن تعزز مهارات التفكير النقدي لدى المشاهد، وتحثه على أن يسأل نفسه:
ما هي الرسائل الخفية التي يقدمها هذا الفيلم؟ وكيف يتلاعب بالمفاهيم التي نعتبرها مسلّم بها؟
في هذه اللحظة، تتحول تجربة مشاهدة الفيلم إلى تمرين عقلي.
يصبح الفيلم مادة خام للتفكير والتحليل، وليس فقط مشهدًا بصريًا نستهلكه.
واحدة من الطرق الأخرى التي يمكن أن نعزز بها التفكير النقدي عند مشاهدة الأفلام هي التفكير في بنية الفيلم نفسه.
نأخذ على سبيل المثال فيلم “Pulp Fiction” لكوينتين تارانتينو.
الفيلم يعتمد على حبكة غير خطية، حيث تتداخل الأحداث وتتقاطع بطرق غير تقليدية.
هذا يدفع المشاهد إلى التفكير في كيفية تنظيم السرد، ولماذا اختار المخرج هذه الطريقة بالتحديد.
هنا، الفيلم يصبح أشبه بـ لعبة ذهنية، يتحدى بها المخرج توقعاتنا التقليدية حول السرد.
يمكننا أيضًا استحضار نصوص أرسطو حول “الدراما” و”الكاثارسيس”.
أرسطو كان يعتقد أن الفن، بما في ذلك الدراما، يجب أن ينظم بطريقة معينة لتحقيق التنفيس العاطفي،
ولكن عندما يكسر الفيلم تلك القواعد، كما فعل تارانتينو، يكون لدينا الفرصة للتفكير نقديًا حول كيف ولماذا يعمل الفيلم بهذه الطريقة.
بعض الأفلام تفتح الباب لمناقشات أخلاقية وفلسفية عميقة.
فيلم “Schindler’s List” لستيفن سبيلبرغ، على سبيل المثال، يدعو المشاهد إلى التفكير في معاني الخير والشر والمسؤولية الأخلاقية.
الشخصيات في الفيلم ليست فقط شخصيات تاريخية، بل هي رموز لصراعات أخلاقية أبدية.
هنا، يمكن للمشاهد أن يتساءل:
ما الذي يجعل الشخص يقوم بخيارات أخلاقية؟ وما هي الحدود بين الفعل الشخصي والمسؤولية الاجتماعية؟
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قد يعطينا إطارًا لفهم هذه الصراعات،
حيث يؤكد على أهمية “الواجب الأخلاقي” واتخاذ القرارات بناءً على مبادئ عالمية.
من خلال مشاهدة هذا النوع من الأفلام، يمكن أن يتعلم المشاهد كيفية تحليل المواقف الأخلاقية المعقدة والتفكير في كيفية تطبيق تلك المبادئ في حياته اليومية.
غالبًا ما يُنظر إلى الانخراط العاطفي في الفيلم على أنه قد يعوق التفكير النقدي، ولكن في الحقيقة، يمكن أن يكون العكس هو الصحيح.
من خلال الانخراط العاطفي في قصص الأفلام، مثل فيلم “La La Land”،
نصبح أكثر حساسية للمواضيع العاطفية والوجودية.
القصة الظاهرة قد تكون قصة حب فاشلة، لكن التعمق في طبقات الفيلم يُظهر لنا تساؤلات حول الحلم الشخصي، والتضحية، والهوية.
الفيلسوف جان بول سارتر، في فلسفته الوجودية، يشير إلى أن:
“الإنسان هو ما يفعله ويختاره.”
هذه الأفكار تظهر بشكل قوي في الأفلام التي تستكشف القضايا الشخصية والخيارات التي تؤثر على الحياة بأكملها.
عندما نشاهد مثل هذه الأفلام، يمكننا أن نرى كيف تثير قصص الشخصيات تساؤلات عميقة حول الحرية والمسؤولية.
يمكن أن تتحول مشاهدة الأفلام إلى تجربة تعليمية ممتعة تعزز التفكير النقدي إذا كنا مستعدين للنظر إلى ما وراء السطح.
كما تعلمنا من دريدا وأفلام نولان، يمكننا تفكيك الرموز والمعاني، ومن خلال الاستلهام من ديكارت وسارتر،
يمكننا أن نستخدم الأفلام كأداة لفحص أفكارنا الخاصة.
الفيلم، كما يقول البعض، هو مرآة تعكس الواقع، ولكن في الحقيقة، هو أيضًا نافذة مفتوحة على احتمالات جديدة.
وعندما نمارس التفكير النقدي أثناء مشاهدته، نصبح أكثر وعيًا بالرسائل التي تنقلها الأفلام، وبكيفية تأثيرها على فهمنا للعالم ولأنفسنا.