⁠العاشرة مساءً
١٠٨٢ كلمة
٠ تعليق

في عام 2014، صنع المخرج الإنجليزي مايك لي فيلمًا روائيًا طويلًا بعنوان “السيد تيرنر” Mr. Turner، عن الخمس وعشرين سنة الأخيرة في حياة الرسام الإنجليزي جي إم دبليو تيـرنر (1775 – 1851)، الذي اشتُهر بتقديمه الفائق للطبيعة في لوحاته التشكيلية، واهتمامه على نحو خاص بما يُسَمَّى “اللوحات البحرية”، أي اللوحات التي تصور مشاهد البحر وغرق السفن والمعارك البحرية. ركز الفيلم في معظمه على سيرة الفنان المعروف بتقلُّباته المزاجية وغرابة أطواره ونزقه الجامح في الفن والحياة. وكان للفيلم أن يصبح مجرد دراما سِيرة معتادة، لولا مشهدًا محددًا قرب نهايته.

في سنواته الأخيرة، لحق تيرنر باختراع كاميرا التصوير وبدايات انتشاره. يصور المشهد زيارة الفنان العجوز إلى أحد ستوديوهات التصوير البدائية لتجربة الاختراع الجديد. المشهد طويل ومتمهل، ومُعتنَى بتقديمه على نحوٍ خاص. يُغرِق تيرنر المصورَ الشاب بالأسئلة عن الآلة الجديدة: كيف تعمل؟ ما اسم صانعها؟ ما العدسة البصرية المستعملة فيها؟ لماذا تضع رأسك داخل الصندوق وتغطيها بهذا الغطاء الثقيل؟ ولماذا لا تنتج الكاميرا سوى صورًا بالأبيض والأسود؟ تجهُّم تيرنر وهو يلقي بأسئلته يشي بضيقه من الاختراع الجديد، ويقابله مرح وخفة المصور الفخور بآلته السحرية. يطلب المصور من تيرنر الثبات لعشر ثوان من أجل التقاط الصورة، ويأخذ في دندنة مقطوعة موسيقية وهو يحمل ساعته حاسبًا الثواني العشر. يسأل تيرنر: “هل انتهيتَ من التقاط الصورة؟” ويجيب المصور: “نعم يا سيدي، انتهيت”، فيهمس تيرنر لنفسه بغضب مكتوم: “بل أنا الذي انتهيت!”. في مشهد تالٍ، سيلقي تيرنر للمصور الشاب بملاحظة ساخطة، كأنها نبوءة مشؤومة: “قريبًا سيجوب المصوِّرون العالم بصندوق كاميرا كالسمكرية، بدلًا من حقيبة فُرَش الرسم”.

لنضع أنفسنا مكان تيرنر. أي مصور بصندوق كاميرا على كتفه، صار يمكنه أن يؤدي مهمته كاملة دون انتقاص، وبمنتهى السهولة، فماذا يتبقى له من أهمية؟ ربما يصعب علينا تصوُّر حدة هذا الشعور الآن، في عصرنا المزدحم بالكاميرات وصورها في كل مكان ولحظة. لطالما كان التصوير إحدى الوظائف الأساسية للفن التشكيلي، والنزعة التصويرية ما زالت تمثل لدى أغلب جمهور الفن معيارًا جوهريًا في الحكم، لأنها تجذب انتباههم إلى البورتريهات التي تطابق أصحابها وإلى الأعمال التشكيلية التي تماثل الطبيعة. ثمة اعتقاد واسع بوجود صلة عميقة بين التصوير الشبيه بما هو موجود في الحياة، والقيمة الفنية للعمل التشكيلي. لكن اختراع الكاميرا، أي ظهور تقنية آلية تؤدي عمل الفنان، قد أزاح التركيز لدى من يريد تقديم جديد، إلى وجوب استكشاف مناطق أخرى في الفن التشكيلي لم يرتَدها أحد من قبل، ويصعب تحديدها بدقة كذلك. وربما لهذا، رأى السيد تيرنر أنه قد انتهى.

لا يلغي ظهورُ تقنية جديدة التقنيةَ السابقة عليها، لكنه بالتأكيد يعيد تشكيلها في العمق. تنبأ بول فاليري في إحدى كتاباته بأن التجديدات الكبرى في مجمل تقنية الفنون ستؤثر على الابتكار الفني بل وسيمتد تأثيرها إلى مفهوم الإنسانية عن معنى الفن وماهيته. ظهرت الفوتوغرافيا وانتشرت منذ نهايات القرن التاسع عشر، وسيضحى القرن العشرون، مع حربيه العالميتين وانقلاباته العنيفة في معاني السلطة والسياسة، ساحةً لصراعات فنية ذات أبعاد إيديولوجية وفكرية بين الفن التشكيلي الكلاسيكي كما ترسخ لقرونٍ عدَّة، وحركات الفن الطليعية الجديدة: التجريدية والتكعيبية والدادائية والسوريالية، حتى لحقت بها انفجارة البوب أرت الكبرى منذ عقد الأربعينيات، إيذانًا بدخول الكلاسيكية إلى المتحف.

لم تنجُ ممارسات فنية أخرى، كالأدب والموسيقى مثلًا، من التأثير الساحق لظهور الفوتوغرافيا، وقد يكشف لنا فحص أعمق لتحول الأدب نحو مزيد من الاختزال والكثافة التعبيرية، واللا-يقين نحو العالم المرئي، والاهتمام المتزايد بالمونولوجات الداخلية، وظهور تيار الوعي في الكتابة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عن تأثير مشابه. غير أن الفن التشكيلي احتفظ بالزلزلة الأكبر، إذ لطالما كان السعي للمطابقة الفائقة مع الطبيعة سمة أساسية في الفن الكلاسيكي، ثم أصبحت بعد الفوتوغرافيا محلَّ تشكُك عميق.

لكل تقنية جديدة تظهر، عَرَض سلبي يصاحبها، كثمن مُستحَق للتطور. في أوج ازدهار الثورة الصناعية في أوروبا، أشار كثير من نقاد وفناني زمنها إلى التدهور الذي ألحقته تلك الثورة بالحرف اليدوية. التدهور هنا حكم قيمة من ذهنية نقدية تفحص زمنها، ولا يمكن لوم ناقد كلاسيكي من نهايات القرن التاسع عشر، إذا ما رأى في تيارات فنية لاحقة مثل التجريدية والتكعيبية مثلًا، بوصفها انحطاطًا فنيًا.

نهض الفن الكلاسيكي على اقتصاديات مميـزة تقوم على صنع أعمال فريدة ونادرة وواحدية، وتزدري النَسْخ الميكانيكي. إن نسخة شديدة الإتقان من “الموناليزا”، ومهما بلغت دقتها، لا تتساوى مطلقًا مع تلك الأصلية المعروضة في موضع الشرف من متحف اللوفر بباريس. ويلاحظ المؤرخ الماركسي إيريك هوبزباوم في كتابه “أزمنة متصدعة”، أن رعاة الفنون في القرن التاسع عشر كانوا يطلبون شراء معظم إنتاجات الثقافة الرفيعة ويجمعونها، ما عدا تلك التي تنتجها المطبعة؛ أول أبناء الثورة التكنولوجية الحديثة، والتجلي الأبرز لتقنية النَسْخ الميكانيكي.

في النصف الثاني من القرن العشرين، عرف المشهد الفني العالمي اندلاع شهرة فنان أمريكي اسمه آندي وارهول. كان وارهول رسامًا يصنع أعماله بتقنية طباعية هي “السيلك سكرين”، ويوظِّف في ملصقاته الفنية بالتكرار عناصر وموتيفات بصرية من قلب الحياة اليومية العادية، تكاد تكون مبتذلة تمامًا، مثل صور علب الصلصة وزجاجات الكوكاكولا ووجوه فنانات السينما. وقد قيل إن وارهول هو الفنان الذي يمكنك أن تعطيه سلة قمامة، فيصنع لك من محتوياتها أعمالًا فنية. استجلب عمل وارهول إعجابًا عامًا، وسخرية عامة كذلك، من قبل الكثيرين. ومثّل تحولًا جذريًا للاقتصاديات التي يقوم عليها السوق التجاري للفن.

يقول وارهول: “الاستهلاك أكثر أمريكية من التفكير، وأنا أمريكي”، وعلى هذا اعتمدت ابتكاراته الفنية. كان وارهول يُسمِّي مكان عمله “المصنع”، وهي تسمية دقيقة ومعبرة تمامًا. يمثل وارهول النقيض الكامل لملاحظة إيريك هوبزباوم، فمعه احتلت الأعمال الفنية المعتمدة على “النَسْخ الميكانيكي” صدارة المشهد. يصنع وارهول سلاسل من الملصقات الفنية، بتبديل ألوانها أو ترتيبها الداخلي، فتحظى باهتمام مقتني الفنون ودولاراتهم الثمينة. كان وارهول ذروة الانقلاب على الفن الكلاسيكي، وانفجارة البوب آرت في المشهد الفني العالمي. وبخلاف ملصقاته ولوحاته، خاض وارهول في أنواع فنية عديدة بنفس الطريقة، فصنع أفلامًا سينمائية تجريبية لا تقل إثارة للجدل، لعل أغربها فيلمه “إمباير” (1965)، الذي يقدم، لمدة 8 ساعات و5 دقائق متواصلة، كادرًا ثابتًا بالحركة البطيئة، لا يكاد يتغيَّـر، لبرج “إمباير ستيت” بنيويورك.

بالتأكيد لن تستسيغ الأغلبية ذلك النوع الغريب من الفن، ولهم كامل الحق في ذلك. وبغض النظر عن حكم القيمة الفنية، إلا أنه لا يمكن إنكار التأثير التحرُّري له على عملية ممارسة الفن ككل. فجأة، وعلى نحوٍ هائل، فتح “البوب آرت” الباب على مصراعيه أمام الفنان، فصار كل شيء وأي شيء يتواجد حوله، ومهما بلغت تفاهته، مصدرًا للإلهام ومادة للاستعمال داخل العمل الفني. واتسع نطاق التجربة الفنية ليشمل العالم كله، بكل ما يحتويه.

ماذا الذي كان ليقوله السيد تيرنر لو انتقل زمنيًا ودخل إلى أحد معارض آندي وارهول، وهو الذي عُرِف عنه انتقاده الشديد لأعمال معاصريه الفنانين، المنتمين لنفس التوجه الفني الذي ينتمي هو له؟! لا يمكننا التأكد بالطبع، ولكن لا يصعب التخمين بالنظر إلى عصبيته المعروفة عنه. لربما على الأرجح كان سيبحث عن أقرب مطرقة، ويهشم كل محتويات المعرض، بما فيها رأس وارهول نفسه ورؤوس الحاضرين.

شارك هذا الـمقال