الرابعة صباحًا
١٦٣٦ كلمة
٠ تعليق

حكماء ولكن حكمتهم لا تصلح إلا أن تكون أفكارًا نظرية، ابتكروا نظريات جديدة مبهرة، وقادوا الحضارة في الأزمنة الغابرة، ولكن اليوم ليس لهم مكان إلا بين مجالس المتفذلكين الذين لا تقدم كلماتهم ولا تؤخر.

هكذا ساد الاعتقاد حول الفلاسفة والفلسفة في العصر الحديث، لما لا وقد أثبت العلم أنه المعجزة الحقيقية للحضارة الإنسانية، واضعًا نفسه على رأس المعارف البشرية، حتى بات في بعض الأحيان دينًا للمهووسين بالحقائق التجريبية.

كان ذلك نتيجة لانفصال العلوم المختلفة عن الفلسفة تباعًا، بداية من الهندسة على يد “إقليدس” قبل الميلاد، ثم الفيزياء على يد “نيوتن”، وتلاها الكيمياء ثم الأحياء. حيث سعى العلم للخروج بإجابات ترتبط بمعايير يمكن قياسها، أي ترتبط بالكم والكيف، بعكس الفلسفة التي بحثت عن إجابات كلية منبثقة من تصورات ميتافيزيقية حول حقيقة الكون والوجود.

وقد دعم الاعتقاد الذي يدّعي موت الفلسفة كثير من كبار العلماء المعاصرين، إما عمدًا أو بدون، على رأسهم الفيزيائي الأشهر ربما “ستيفن هوكينج”، حينما أعلن في مفتتح كتابه “التصميم العظيم” أن الفلسفة قد ماتت، مبررًا ذلك بالتطور الكبير الذي طرأ على العلم خصوصًا في مجال الفيزياء، مؤكدًا أن العلم قد قتل الفلسفة وأخذ دورها في مضمار الإجابة عن الأسئلة الكبرى.

ولكن هل يعد ذلك التصور صحيحًا؟ هل بات العلم أهم من الفلسفة حقًا؟ أم أن الفلسفة أصلًا لم تكن بتلك الأهمية من الأساس؟

فك الارتباط بين العلم والفلسفة

كان الفلاسفة قديمًا هم المسؤولون عن البحث والإجابة عن الأسئلة الهامة التي أرهقت أذهان البشر، إذ لم يكن هناك حدود تفصل بين العلم بمعناه التجريبي الحديث والفلسفة، بداية من فلاسفة الطبيعة في عصر ما قبل سقراط، وأبرزهم “فيثاغورس”، المعروف طبعًا بإسهاماته في الهندسة بنظريته عن المثلث القائم الزاوية، حيث إن “فيثاغورس” كان في الأصل فيلسوفًا، بل كانت له مدرسة فلسفية هامة تخرّج منها العديد من فلاسفة زمانه.

لكن يظل أشهر من جمعوا بين العلم والفلسفة، وربما يكون أكثرهم كمالًا أيضًا، هو “أرسطوطاليس”، فبخلاف كون “أرسطو” فيلسوفًا من بين الأهم في التاريخ القديم، أسهم كذلك في علوم الطب والأحياء والفيزياء والفلك وغيرها من التخصصات التي فصلها العلم الحديث عن الفلسفة لاحقًا.

وظلت الفلسفة والعلم في ترابط حتى القرن السابع عشر، بعد أن بدأ علم الفيزياء في الاستقلال عن الفلسفة مع “جاليليو” ومن بعده “نيوتن”، وحذا حذوه علم الأحياء مع “لامارك” ثم “داروين”.

بالطبع كان لذلك التطور الذي طرأ على العلم أثره على الفلسفة، فالمعرفة البشرية ليست جزر منعزلة تعمل كل منها على حدة، بل ترتبط فروعها ببعض، وتؤثر ببعضها البعض كذلك.

ربما يكون الإنجليزي “فرانسيس بيكون” (1561-1626) هو واضع حجر الأساس للمذهب الفلسفي الجديد الذي بدأ في الصعود مع الإرهاصات الأولى لانحسار أدوار الفلسفة لصالح أشكال أخرى من المعرفة الأدق، وقد أُطلق على هذا المذهب “التجريبية”.

ذلك المذهب الذي كان بمثابة النقيض للمذهب العقلاني الذي هيمن على الحضارة الغربية طوال قرون، ودارت أفكاره الرئيسية حول اعتبار العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، أي آليات العقل وما تنتجه من تصورات، منكرًَا قدرة الحواس البشرية على تقديم معرفة صحيحة، إذ أنها في المجمل قاصرة وغير منضبطة.

فظهر المذهب التجريبي نتيجة لانكشاف حقيقة أن العقل لا يقدم دائمًا تصورات صحيحة عن العالم، حيث استطاع العلماء الأوائل إثبات ذلك بالفعل عدة مرات، ربما يكون أشهرها إثبات “كوبرنيكوس” في القرن السادس عشر، عن طريق دراسة حركة الأجرام السماوية، أن الأرض ليست مركز المجرة كما كان يُعتقد قديمًا.

حيث دعت التجريبية إلى أن المعرفة يمكن استخلاصها كذلك من الحواس، بل أن الحواس عامل ضروري لا يمكن الاستغناء عنه للوصول إلى أدق تصور ممكن عن العالم، فالتجارب العلمية التي توالت خلال عصر التنوير والنهضة اعتمدت بصورة رئيسية على الثقة في الحواس، تلك الثقة التي كانت غائبة في عصر هيمنة المذهب العقلاني.

ليبدأ أفول عصر الفلسفة العقلانية التي ظلت وحيدة على الساحة قرونًا طويلة، ويبدأ عصر الفلسفة التجريبية التي صعدت نتيجة لتطور العلم وإثباته أن المنهج العلمي المعتمد على التجربة الفعلية يستطيع أن يصل لحقائق يقينية أكثر مما تفعله الفلسفة بمنهجها المعتمد على تشريح العقل وأدواته والتنقيب في تصوراته الميتافيزيقية عن العالم.

لكن ما لبثت تلك المدرسة التجريبية المتحمسة أن تضع الفلسفة في أزمة عميقة كادت أن تقضي على الفلسفة برمتها بل وعلى العلم أيضًا.

كيف أنقذت الفلسفة العلم؟

كما كانت الفلسفة قديمًا هي المنبع والمساحة الرحبة التي تطورت منها كافة أشكال المعرفة البشرية لاحقًا، كانت كذلك، بعد انحسار أدوراها لصالح العلم، الخطر الذي هدد مستقبل المعرفة، بشقيها العلمي والفلسفي.

حيث أخذ المذهب التجريبي في التطور خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر تزامنًا مع الثورة العلمية التي انفجرت في تلك الحقبة، وكانت بريطانيا هي أرض التجريبيين، فخرج منها “جون لوك” و”جورج بيركلي” و”ديفيد هيوم” وغيرهم، ولكن هذا الأخير لم تمر بصمته على الفلسفة التجريبية مرور الكرام.

فقد ظهر الإسكتلندي “ديفيد هيوم” في القرن الثامن عشر ليضع العلم في مأزق خطير بعد أن أنكر انتماء الاستقراء إلى المنهج العلمي أو بالأحرى المنطق، حيث أرجعه إلى أسباب نفسية.

والاستقراء هو العمود الفقري للعلم برمته، إذ أنه من المستحيل أن تُختبر كافة القضايا العلمية تجريبيًا لتقف على استنتاجات صحيحة، فالمنهج العلمي يعتمد على اختبار حالة واحدة أو أكثر ثم تطبيق النتيجة على كافة الحالات المشابهة، هذا هو الاستقراء.

لذا يكون أي مساس بمنطقية الاستقراء هو بمثابة ضربة قاتلة للمنهجية العلمية والعلم بكليته.

وقد استخدم “هيوم” مثالًا شهيرًا أوضح مدى الفجوة التي أحدثها في المعرفة البشرية، حيث أكد على أن شروق الشمس يوميًا لا يمكن تسويغه منطقيًا أو علميًا بالكامل، أي أن حقيقة شروق الشمس يوميًا منذ فجر التاريخ لا تعني -منطقيًا- أنه يجب على الشمس أن تشرق غدًا أيضًا، فذلك الاعتقاد ينتمي إلى دوافع نفسية لا يمكن تبريرها منطقيًا.

أحدث نقد “هيوم” للاستقراء هزة قوية في الأوساط العلمية والفلسفية عجلت بظهور أحد أهم الفلاسفة في التاريخ، “إيمانويل كانط”، الذي اعترف أن “هيوم” هو من أيقظه من ثُباته.

فقد كرّس الفيلسوف الألماني “كانط” مشروعه الفلسفي برمته لإنقاذ المعرفة البشرية من النفق المظلم الذي حفره هيوم بنقده للاستقراء، من خلال ثلاثيته الشهيرة في نقد العقل، والتي حاول فيها تشريح العقل البشري واستبيان الآليات والأنماط التي يستخدمها في معالجة الأفكار.

بالفعل نجح “كانط” في دفع المعرفة البشرية إلى الأمام بعد أن أوضح أن العقل البشري، رغم أنه الأداة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها، إلا أنه أيضًا لا يقدم أجوبة نهائية لكافة الأسئلة التي تقف أمام الإنسان، وأن ذلك يرجع لطبيعة العقل وكذلك لطبيعة العالم الذي نعيش فيه.

مشيرًا إلى أن تلك الثغرات المنطقية لا يجب أن تفقد العقل إيمانه بالمعرفة العلمية، فالعقل الذي أنتج نمط التفكير المنطقي ينطوي على مساحات فارغة بطبيعته، والتي تنتج أسئلة بلا إجابات، مؤكدًا أنه يجب إدراك تلك الحقيقة ومن ثم المضي قدمًا في حدود ما يوفره العقل من إمكانيات.

لم تتوقف الضربات نحو المنهج العلمي عند هذا الحد، فقد حاول الماركسي الشهير “فريدريك إنجلز” الزج بالنظرية الماركسية تحت إطار العلمي، من خلال الدعوة إلى أن “ماركس” قد وضع منهجًا علميًا لتطور المجتمعات كما فعل “داروين” في نظرية تطور الأنواع الشهيرة.

هنا كان يجب الوقوف وقفة جادة لتحديد معايير واضحة لما يمكن أن يوصف بالعلمي، فإذا قبل المجتمع العلمي ببساطة نظريات تنتمي للعلوم الإنسانية مثل الماركسية لتقارن بالداروينية أو حتى بالفيزياء النيوتنية، ما الذي يمكن أن يمنع أساطير مثل علوم الطاقة والأبراج أن تُعتبر علمية فيما بعد؟

بالطبع كان الفلاسفة مجددًا هم من أخذوا زمام المبادرة لإنقاذ العلم من مستنقع الأساطير والأوهام.

فقد ظهر الفيلسوف النمساوي “كارل بوبر” في القرن العشرين ليضع معايير فلسفية صارمة لتحديد المنهج العلمي المنضبط، من خلال عدة قوانين كان أهمها القابلية للاختبار والقابلية للتكذيب.

أي لكي نطلق على نظرية ما أنها علمية يجب عليها أن تكون قابلة للاختبار وكذلك قابلة للتكذيب، فعندما نقول مثلًا إن الماء يغلي عند درجة حرارة 100 مئوية، فتلك نظرية يمكننا اختبار صحتها، وبما أننا نستطيع اختبارها نستطيع كذلك تكذيبها إن لم تتوافق التجربة العملية مع النظرية؛ أما إذا قلنا إن الحرية هي أسمى معاني الوجود، فتلك نظرية لا يمكن اختبارها عمليًا وبالتالي لا يمكن تكذيبها، لذا لا يمكن اعتبارها نظرية علمية.

بفضل تلك المنهجية الصارمة أصبحنا اليوم نسخر بسهولة من اعتبار الأبراج معرفة حقيقية يمكن الاعتماد عليها، إذ إن الفضل يرجع أولًا وأخيرًا إلى الفلسفة، وليس العلم التجريبي.

الفلسفة لم تمت

ربما يتبادر إلى الذهن الآن سؤال وجيه، ألا وهو بعد أن قامت الفلسفة بتطوير منهج علمي، ثم وضع معايير صارمة لحمايته، ما الدور الذي يمكن أن تقوم به الفلسفة اليوم في ظل التطور المرعب للتكنولوجيا؟

حسنٌ، إن التطور التكنولوجي الكبير الذي شهده العالم في العقود الأخيرة، والذي قد يشير إلى أن الفلسفة لم تعد ذات أهمية كبيرة اليوم، هو نفسه الذي يؤكد على أهمية الفلسفة ودورها الذي لا يمكن استبداله حتى الآن.

يظهر ذلك جليًا في تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يسهل اعتبارها المستقبل الذي ينتظر البشرية في العقود القادمة، حيث وضع الذكاء الاصطناعي البشر مجددًا أمام الأسئلة القديمة التي ناضلوا للبحث عن إجابات لها، ولكن هذه المرة من موقع جديد كلي.

فكم من التقارير والأخبار التي ظهرت في السنوات الأخيرة عن إيقاف أنظمة ذكاء اصطناعي بعد أن أظهرت تصرفات عدوانية أو عنصرية تجاه جنس أو عرق أو لون، تلك التصرفات التي اعتبرها البشر غير أخلاقية.

هنا يمكن أن نستبصر أهمية الفلسفة مجددًا، فعلم الأخلاق هو مبحث كبير تختص به الفلسفة حصرًا ولا غيرها، ومع تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي ذاتي التعلم، صعدت على الواجهة الأسئلة الأخلاقية القديمة مجددًا، ممثلة في الخير والشر والصواب والخطأ وغيرها من المعايير القيمية.

ولكن الآن أصبح الإنسان يتعاطى مع تلك الأسئلة الحساسة من موقعه الجديد كخالق لأنظمة الذكاء الاصطناعي وليس كمخلوق كما في السابق، فالإنسان بات عليه أن يحدد لهذه الآلات ما هي معايير الصواب والخطأ.

تلك المعايير التي أرهقت الفلاسفة طوال قرون عديدة من أجل تحديدها، واختلفوا عليها أكثر مما اتفقوا، ما المنهج الأخلاقي الذي سيضعه البشر للآلات؟ أخلاق نفعية تهتم بالصالح العام؟ أم أخلاق واجبة تهتم بفعل الخير في ذاته حتى لو تسبب في ضرر واسع؟ أم غيرها من المناهج الأخلاقية؟

لا شك في أن الفلسفة هي من عليها الإجابة عن تلك الأسئلة التي ربما ستحدد مصير البشرية وترسم مستقبلها، لتؤكد الفلسفة من جديد، ذلك العلم الغامض والجميل، أنها أم العلوم، وأن وجودها لا يزول إلا بزوال البشر، أو بتمكن الإنسانية من الإجابة عن كافة أسئلة الوجود والكون الفسيح الذي نعيش فيه يومًا ما.

شارك هذا الـمقال