الرابعة صباحًا
١٢٦٠ كلمة
٠ تعليق

العام هو 1968. شابان، واحد منهما إيطالي والآخر ياباني، يطالعان كتابًا في الرياضيات لأويلر، عالم الرياضيات الاستثنائي.

لا ندري الآن إن كانت تلك المطالعة قد حدثت في أجواء من الاسترخاء والفضول، أم كانت مدفوعة بعبء العمل على مشروع جديد..

يمكننا اعتبار الرجلين، في ذلك الوقت، عالمين الفيزياء، في بداية طريقهما الأكاديمي..

نظر أحدهما إلى الآخر في دهشة ثم تمتم: هل ترى ما أراه؟! ولعل صديقه قد أجاب: هذا غريب..

أمامهما صيغة رياضية مجهولة، قدمها أويلر في كتابه الصادر في القرن الثامن عشر؛ أما المدهش في الأمر، فهو أن هذه المعادلة التي تنتمي إلى الماضي تصفُ بدقة معضلةً فيزيائية من عالم منتصف القرن العشرين!! بالتحديد ظاهرة تشتت جسيمين دون ذريين..

كيف هذا؟! لا يفترض بالعلم أن يسير بهذه الطريقة، ولم يحدث في تاريخ الفيزياء أن عبرت معادلةٌ قديمة عن مشكلة ظهرت في المستقبل، الأمر أشبه بتصميم بيت ليلائم مدينة ستشيّد بعدها بقرن!

لاحقًا أدرك عدد من الفيزيائيين أن هذه المعادلة السحرية وخصائصها الرياضية تمثل تفاعلًا بين اثنين من الأوتار، وأن بإمكاننا تعريف ظاهرة تشتت جسيمين، بوصفها تفاعلًا بين اثنين من الأوتار، المُكوّن الرئيسي للكون في أدق أشكاله.

بهذه الفكرة البسيطة يبدأ ميتشيو كاكو، أحد أشهر علماء الفيزياء النظرية في وقتنا الحالي، كتابه المصنف تحت فئة العلوم الشعبية: “معادلة الإله، البحث عن نظرية لكل شيء” (إبريل ٢٠٢١-Doubleday)، ليحكي عن بدايات نظرية ستعرف لاحقَا في عالم الفيزياء بنظرية الأوتار، وسيسهم هو فيها بالعديد من الأفكار المهمة.

يُقدم (كاكو) في كثير من الأحيان بوصفه عالم مستقبليات، وهم العلماء المهتمون بتقديم قراءات تخص الإنسانية والعلوم والتكنولوجيا، بناء على قراءة واقعية لتطوّر العلم وما يواجهه من تحديات.

يعيدنا كل ذلك إلى البداية..

ما الذي استفدناه بالضبط من إعادة اكتشاف هذه المعادلة المجهولة لعالم الرياضيات العظيم أويلر؟!

كان هذا ببساطة فتحًا جديدًا لعلماء الفيزياء، تخطوا من خلاله مرحلة من الركود والجمود الذهني. يقول كاكو في كتابه: “أصبحت نظرية الأوتار مثل بئر نفط، يتدفق في سيل من المعادلات الجديدة”.

يُلَمِح (كاكو) إلى عدم رضاه عن هذا الوضع، إذ كان إسهامه الأول، الذي حصل فيه على درجة الدكتوراة، هو حساب مجموعة كاملة من التفاعلات لعدد عشوائي من الأوتار.

أما سبب عدم رضا (كاكو) فيلخصه الاقتباس التالي: “منذ عهد فاراداي مُثِلَت الفيزياء بمجالات تلخص بإيجاز كميات هائلة من المعلومات. وعلى النقيض من ذلك، كانت نظرية الأوتار، في مهدها على الأقل، عبارة عن مجموعة مفككة من المعادلات”.

يستدرك (كاكو) بأنه مع شركائه البحثيين قد استطاعوا تلخيص كل نظرية الأوتار في معادلة واحدة طولها بوصة واحدة فقط سميت بـ”نظرية مجال الأوتار”..

بحسب النظرية، فإن كل اهتزاز في الوتر يمكن تشبيهه بنغمة موسيقية يعزفها الكون وتمثل جسيمًا دون ذري.. الآن؛ وبحسب النظرية، فإن الإلكترونات والكواركات وجسيمات يانج-ميلس هي نغمات مختلفة على نفس الوتر المهتز..

يقول كاكو: “هذا يعني اختزال جميع قوانين الفيزياء في تناغم هذه الأوتار. الكيمياء هي الألحان التي يمكن للمرء أن يعزفها. والكون سيمفونية. وعقل الله، الذي كتب عنه آينشتاين ببلاغة، هو موسيقى كونية يتردد صداها في جميع أنحاء الزمكان”.

لما قرأت هذه الكلمات اللطيفة لكاكو في المرة الأولى أحسست ألحان افتتاحية سيمفوني بيتهوفن السابعة البراقة الراقصة تتردد في أذني..

هنا قد يظهر سؤال بسيط: ما الذي سيستفيده العلم الحديث من هذه النظرية؟

كي تكون الإجابة أكثر دقة فينبغي أن يصاغ السؤال هكذا: “ما الذي تحاول نظرية الأوتار أن تقدمه للفيزياء؟!”

وإجابة هذا السؤال هي محور الكتاب نفسه..

يتحدث (كاكو) في بداية كتابه عن حلمه الشخصي بأن ينجح فيما فشل فيه آينشتاين. مات آينشتاين دون أن يقدم قانونًا شاملًا يفسر الكون، من أدق أجزائه (الجسيمات الأولية كما نعرفها) وحتى أكبر الأجرام السماوية.

وما دمنا قد وصلنا إلى هنا، فينبغي التذكير في هذا السياق بالرباعية التي تحكم الكون وتتحكم فيه. يقول العلماء إن هناك أربع قوى أساسية، هي أفضل أدواتنا لفهم الكون: القوى النووية القوية والقوى النووية الضعيفة وقوى الجاذبية والقوى الكهرومغناطيسية.

يتناول الكاتب كل واحدة من هذه القوى بدرجة من التفصيل، تمهيدًا للوصول إلى سؤاله الأهم عن نظرية الأوتار.

في مسألة القوى النووية مثلًا، لا يغفل الكاتب الصراع الرهيب الذي دار بين الفيزيائيين أثناء الحرب العالمية الثانية لتطويع هذه القوى الرهيبة، وتصميم أول سلاح نووي في التاريخ.

أما القوى الكهرومغناطيسية فهي تفسّر طريقة عمل الكهرباء، والعلاقة الساحرة بينها وبين المغناطيسية، تلك التي أرسى قواعدها جميس كليرك ماكسويل في رياضيات جميلة أواخر القرن التاسع عشر، ولا يفلت (كاكو) الفرصة في شرح العمل الكبير الذي قامت به هذه المعادلات في تطور الصراع بين تسلا وأديسون في الحرب الشهيرة المعروفة باسم حرب الكهرباء.

وأخيرا قوى الجاذبية وهي الموضوع المهيب للفيزياء وسبب رئيسي لإشكالية الفيزياء في الوقت الحالي، كان لآينشتاين دورًا كبيرا في التطور الهائل للفيزياء في بدايات القرن العشرين. لاحظ الفيزيائي الشاب وقتها تناقضًا كبيرًا بين قوانين نيوتن وقوانين ماكسويل، وفضل الانحياز لماكسويل على حساب نيوتن، منهيًا قرنين من التفوق الكاسح لفيزياء نيوتن، التي كانت بمثابة لاهوت الفيزيائيين.

أعطت قوانين نظرية النسبية الخاصة للفيزياء رئة جديدة تتنفس بها، ثم تمكنت النسبية العامة من حل الكثير من المعضلات التي وقفت قوانين نيوتن أمامها عاجزة، منها شذوذ حركة كوكب عطارد مثلًا. أما أهم ما قدّمت أفكار آينشتاين، فهو التفسير الذي غيّر تصوراتنا عن الجاذبية بالكامل، ربما إلى الأبد، بعد التنبؤ الدقيق بانحراف الضوء بسبب تشوه الزمكان حول الأجرام السماوية، خاصة الضخمة منها، ثم تفسير آينشتاين الجديد لمفهوم الزمن الذي دعمته الأدلة التجريبية.

يتمّهل الكتاب هنا، ليحكي قصة انزواء آينشتاين عن المجتمع العلمي، تحديدًا بعد خلافه الأشهر مع أحد منظري، ربما الأب الروحي، للفيزياء الكمّية: نيلز بور. ويورد القصة المفصلة لهذا الصراع الذي شغل المجتمع العلمي وقتها، ولا تزال آثاره معنا حتى الآن.

ومع كل إخفاق تعرّض له آينشتاين، يتناول كاكو نجاحات نظرية الكم بالتسلسل التاريخي لتطور هذا المجال، وتحديدًا الانتصارات التي حققتها على كل العقبات التي واجهتها، بما فيها اعتراض آينشتاين نفسه على تفسيراتها للعالم، ولا يضيع (كاكو) على القاريء متعة الحكي عن كبار أساطينها واسهاماتهم، يمزج في براعة ما هو إنساني بما هو علمي، لنصل مع (كاكو) إلى ما أطلق عليه (نظرية كل شيء تقريبًا.

كان هذا هو الاسم الذي أطلق على النموذج القياسي، الذي نجح في دمج ثلاث قوى من القوى الأساسية (النووية القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية) رغم ما اعتراها من عوار وما تحملته من نقد.

لكن ما استعصى على الفيزياء الكمّية كان دمج القوى الثلاث سالفة الذكر مع قوى الجاذبية.

يقول كاكو: “أمكن حتى الآن توحيد ثلاث قوى من أربع قوى للكون في نظرية واحدة وهي النموذج القياسي. لم تكن النظرية الناتجة جميلة جدا، حيث أنشئت عن طريق تجميع تناظرات القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية، وإن كانت في النهاية قد نجحت. لكن عندما نطبق هذه الطريقة المجربة والصحيحة على الجاذبية فإننا نواجه مشكلات”.

تعيدنا هذه النقطة إلى الاكتشاف الذي بدأه العالمان الشابان في مقدمة المقال، لقد مكنتنا نظرية الأوتار من حل معضلة توقفنا عندها كثيرًا، وحركت الماء الراكد في معضلة الفيزياء الحديثة وأعادت الأمل لفكرة دمج قوى طبيعية في قانون واحد.

منحت العلم الحديث معادلة الإله أو نظرية لكل شيء..

كملاحظة عابرة عن الكتاب، نجده قد قدم مناقشة لمعظم المواضيع العلمية التي قد تشغل بال القارئ في القرن الحادي والعشرين، ستجد في هذا الكتاب نقاشًا عن المادة المظلمة والثقوب السوداء والثقوب الدودية، وقصة اكتشاف DNA بالهام من شرودنجر، بل ستجد شرحا لطيفًا لمعضلة قط شرودنجر، سيجد القاريء توضيحًا لتطبيقات النسبية الخاصة والعامة في الحياة اليومية، وكذلك الكون الهولوجرافي والأكوان المتعددة وقصة أبعاد الكون التي تفوق الأربعة أبعاد التقليدية التي اقترحها آينشتاين.

ولا يغفل (كاكو) في كتابه النقد الموجه لنظرية الأوتار، فهو لا يدعي أن النظرية قد اكتملت بالأساس، كما أنه يقدم في حياد كل الإجراءات التجريبية التي يتطلبها إثبات صحة النظرية، ولا يغفل كذلك بعض هذه التجارب الضرورية لإثبات النظرية والتي تفوق إمكانات الجنس البشري في الوقت الحالي..

بشكل عام، لا يجيب كاكو عن الأسئلة بقدر ما يطرحها، وهو يترك قارئه في حيرة، يتأمل مستقبل المعرفة العلمية وما ستقدمه من إجابات والمزيد من الأسئلة المحيرة التي ستطرحها..

*****

“قال رجل للكون:سيدي، أنا موجود!

أجابه الكون: لا يهم..

لم تخلق لدي هذه الحقيقة

أي شعور بالالتزام ناحية أي شيء”

ستيفن كرين

مصطفى العدوي – مهندس وكاتب مصري

شارك هذا الـمقال