إنه عام 4000 قبل الميلاد..
الجو مشمس ولا يبدو أنها ستمطر في الواحة، مثلما حدث كل يوم من أيام الشهرين الماضيين. العشب يبدو أكثر جفافًا واخضرارًا، لذا تجمع فتيات مستعمرتنا الأعشاب وبذورها، وهن يغنين، لكي يصنعن الطعام بعد ذلك من طحينها، وبينما يحاول بعض الذكور العثور علي السمك في الجدول، يرعى بعضهم الآخر ثيراننا بالقرب من البركة.. قررت البدء في إشعال النار..
نحن في نهاية موسم السيول، لذا سنذهب في القريب إلي حافة الوادي، بعيدًا عن الأرض الخضراء، وبعيدًا عن الفتيات والغناء، كي نصطاد.
نهاية الصيف وقت مناسب جدًا لصيد وفير، فعلى الحدود بين الواحة والصحراء، حيث تتجمع المياه في البرك الصغيرة، تجتذب الأحراش مجموعات الظباء والوعول.
رحلة صيدٍ جديدة وعما قليل، سنعود إلي الواحة بطعام يكفينا للمواسم القادمة، لحم و حفلات شواء لا سبيل إلي مقارنتها بأي متعة أخري في العالم.
..
حسنا، قصة هذا الفتي الصياد هي ما يمكن لعالم حفريات نباتية أن يراه تحت الميكروسكوب، إذا ما قرر أن يفحص حبوب لقاح وجدها في عينات قديمة، استخرجها من عدة مواقع في الصحراء الغربية القديمة. وبما أنني واحدة من هؤلاء الذين تسنى لهم فحص هذه العينات، فاسمح لي أن أخبرك بأن هذه العملية كانت أصعب بكثير مما يوحي به الوصف السابق، لأن الحصول علي الغذاء في هذا الوقت الذي يتحدث عنه صديقنا الصياد (نهاية الألفية السادسة قبل الآن)، يصبح أصعب وأصعب. موجات الجفاف تتكرر ومواسم السيول تقصر. بل وأن أحفاد هذه القبيلة، بعد قرون تالية قليلة، لن يستطيعوا البقاء في هذه المستعمرة، ولن يتمكنوا علي الاغلب أيضًا من إقامة أي حفلات الشواء من أي نوع.
في حوالي عام ٥٥٠٠ قبل الآن، ستنتهي الحقبة الإفريقية الرطبة (AHP)في الصحراء الكبرى، ستنتهي بموجة جفاف قاسية وممتدة، إذ ستقرر الشمس أن تُغيّر انحراف مدارها قليلا، ليتغير كل شيء. سيهاجر حزام المطر إلي الجنوب، وعليه ستجف معظم الواحات تباعًا. كما ستندر الفرائس الحيوانية التي كانوا يطاردونها. ومع الوقت الذي تزداد فيه أعداد هذه الجماعات الصيادة، سيزداد جوعهم أيضًا، فلا يمكن لأحد على كل حال أن يقتات على البذور البرية الجافة للأبد.
خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد، سيتلاشى الأثر الانساني الرعوي الذي كنا نراه في عينات الحفريات الأعمق، وتدريجيًا ستصبح كل فصائل النباتات الموجودة في الصحراء الغربية فصائل شوكية صحراوية فقط، لم يعد هناك أثر للنيران كما في السابق. علينا أن نبحث عن هؤلاء البشر القدامى في مكان آخر.
على الأرجح فإن سلالة الفتي الصياد قد هاجروا من الصحراء إلى ضفاف النيل، بصحبة حيوانات قليلة استطاعوا استئناسها. وفي قراهم النيلية تلك، ستجبرهم الظروف على القبول بطعام أقربائهم الشوام، أي زراعة القمح والشعير. سيصبحون فلاحين في أرض خضراء جديدة، ولكنها مختلفة تمامًا. أرض النيل السوداء.
الآن، ستسألني ما هي الحفريات النباتية تلك، وكيف يمكن لنا أن نرى القصة بهذه الدقة تحت الميكروسكوب؟
إذا كنت تعاني من الحساسية الموسمية، فأنت تعرف بالضبط ما الذي تعنيه حبوب اللقاح! هذا الغبار الذي يجعلك تبكي حتى في يوم سعيد، بينما تعاني من حالة لا نهائية من العطس. لكن هذه الحبوب الأصغر من رأس دبوس تمنح العلماء نافذة استثنائية على الماضي.
هكذا نكشف أجزاء القصة
حبوب اللقاح هي أجسام تناسلية تحمل الشفرة الجينية للنباتات البذرية. كل واحدة من هذه الحبوب تملك شكلًا فريدًا يعتمد على نوع النبات الذي جاءت منه، كما تتكوّن جدرانها من مادة تعرف بالـ«سبوروبولينين»، وهي مادة شديدة الاستقرار والتماسك الكيميائي.
ولذلك فعندما تطلق النباتات حبوب اللقاح في الهواء، ثم تسقط هذه الحبوب على التربة أو المسطحات المائية، فإن جدرانها الخارجية الصلبة تسمح لها بالصمود لألاف السنين، بل وتصل المدة إلى ملايين السنوات، عند وجود هذه الحبوب في الطبقات الرسوبية، داخل قيعان البرك أو البحيرات.
وبسبب أشكال هذه الحبوب الفريدة، فبإمكان العلماء بعد ذلك أخذ عينة من هذه الرواسب، وتحديد أنواع النباتات التي كانت تنمو في وقت حدوث عملية الترسيب نفسها.
معرفة أنواع النباتات التي كانت تنمو في منطقة ما تتيح لعلماء الحفريات رسم صورةٍ دقيقةٍ لما كان يبدو عليه المنظر الطبيعي في منطقة الدراسة، فضلًا عن أنها تساعد في معرفة النظام الغذائي لسكان المنطقة، فهي بطبيعة الحال تدل على نوع المحاصيل التي كانوا يزرعونها او يلتقطونها. كما أن التكوين النباتي في عينات التربة يسمح لنا بالخروج باستنتاجات حول المناخ ومقدار المياه ودرجة عذوبته في ذلك الوقت، لأننا نستخدم معرفتنا الدقيقة حول التوزيعات الحديثة للنباتات فيما يتعلق بالبيئة.
إلى جانب حبوب اللقاح النباتية، توجد في العينات كذلك بقايا للأبواغ التي تنتمي للفطريات، والطحالب التي تنمو على الأرض الرطبة وعلي الروث والجلود والأخشاب، ويمكن لعالم الحفريات أن يعرف من كل هذه الأشياء نوع الحيوانات الذي كان الصيادون يطاردونها أو التي كان يرعاها الفلاحون.
وفي العادة لا يقتصر الأمر على ذلك، إذ نجد في عينات التربة نفسها، التي تحمل حبوب لقاح، آثارًا لقطع فحم ميكروسكوبية ذائبة في نسيج التربة، والتي ستخبرنا بدورها عن نشاط إشعال النار في المواقع القديمة.
زرعوا الحضارة ثم تلاشوا: قصة مغايرة من صا الحجر وكوم الخلجان
أنت على الأرجح تؤمن بتلك السردية الكبرى، أو على الأقل سمعت عنها: أننا الفلاحون أبناء الفلاحين، الذين عاشوا هنا في وادي النيل ودلتاه منذ خمسة الاف عام، صنع أجدادنا فنًا وعلمًا وحضارة، وانجبونًا ولكن أين نحن منهم!
حسنًا، إنها قصة طريفة علي بساطتها، ولكن الحفريات تروي أحيانا تفاصيل مغايرة لدرجة الذهول.
حين ننظر إلى تاريخ التغيّر الحفري نجد أحيانا منعطفات بيئية خطيرة، ربما تكون قد دفعت هؤلاء «الأجداد» للهجرة مرات عديدة، بل وهددت وجودهم جذريًا، في التاريخ الممتد بالجفاف والجوع والوباء. وستخبرنا السجلات الأثرية أن هذا الفناء، وهذه الهجرات، كانا يتزامنان أحيانا مع حروب أهلية ضارية، أو ثورة علي ملك أودت به وبالدولة كلها.
لكي يتضح لك ما أقصده، دعنا نترك الواحة التي تقبع تحت الرمال الآن، ولنأخذ الميكروسكوب ونسافر شرقًا من الصحراء، إلى داخل دلتا النيل، حيث سنتوقف في طريقنا عند جزيرتين صغيرتين، تسمي الأولى صا الحجر في غرب الدلتا، كانت تطل منذ عدة ألاف من السنين على ضفة فرع قديم للنيل اسمه فرع النيل الكانوبي، وهي الآن تقع علي بعد كيلومترين من فرع رشيد علي حدود محافظة الغربية، والأخرى تسمي كوم الخلجان في شرق الدلتا، بالقرب من السنبلاوين في محافظة الدقهلية، وكانت هي الأخرى قريبة من فرع نيل قديم يسمي الفرع المنديسي.
في الحقيقة، أشير لهما هنا باعتبارهما جزيرتين، لأنهما كانتا كذلك عندما وفد عليهما أهل الصحراء.
في صا الحجر مثلًا، تمكنت الانجليزية بينلوبي ويلسون، عالمة الأثار من جامعة دورام، من إثبات أن هذه المنطقة كانت إحدى الجزر الأولى في الدلتا التي استقبلت مهاجري الصحراء منذ ستة ألاف عام تقريبًا، حيث مارسوا صيد السمك هناك كوسيلة للكفاف في البداية.
وفي الشرق، وجدت الفرنسية ميدينت رينيه، عالمة الأثار من الأكاديمية الفرنسية للعلوم، أن جزيرة كوم الخلجان قد أصبحت مأهولة بالسكان في التوقيت نفسه تقريبًا مع صا الحجر، أي الألفية الرابعة قبل الميلاد.
في يومنا هذا، نعرف بالطبع أن صا الحجر وكوم الخلجان ليستا جزيرتين، فهما قريتين عاديتين، لا اختلاف بينهما وبين الرقعة المزروعة المجاورة إلا أنهما يقعان على روابي ترتفع قليلًا فوق الارض الزراعية.
في عام ٢٠١٥، أجريت عمليات تنقيب في كلا الموقعين، بالتعاون فريق من جامعة شنجهاي-شرق الصين ، بغرض معرفة قصة تطور البيئة والزراعة فيهما، وكيف بلور ذلك التطور المجتمع المصري القديم هناك.
سأخبرك بما وجدناه، لكن دعني أولا أحكي لك بعض التفاصيل التقنية باختصار.
في البداية توجب على الفريق أن يحفر في صا الحجر، عبر غرس أنبوب طويل داخل الأرض، باستخدام آلة تسمي الأوجر، لأخذ عمود من الرواسب، وصل العمق لحوالي ٨ متر. أخرجنا الانبوبة ثم قطعنا الطين بداخل العمود، في شكل طبقات.
اختلف الأمر في كوم الخلجان، لم نضطر للحفر، فقد أخذنا عينات التربة من بئر مفتوح كانت البعثة الفرنسية قد نقبت فيه سابقا، وهنا وصل العمق لما يزيد عن متر واحد.
انتهي عملي الميداني، وعدت إلى معملي في شنجهاي، ثم بدأت استخلاص الحفريات من الرواسب، والتعرّف علي تغيرها التدريجي في كل طبقة، وفي هذه الأثناء، أرسلت بعض العينات لمعمل بيتا في فلوريدا، كي يؤرخ هذه الرواسب باستخدام الكربون المشع.
كان لدي تصوّر عامّ عما يفترض بي أن أجده: بداية من أعوام الجفاف في الألفية الثالثة قبل الميلاد سنجد حبوب لقاح تعود لمحاصيل ناشئة وأعشاب ترتبط بهذه الأرض الزراعية.
وبالفعل حدث ما توقعناه: في الموقعين، وجدت أن العينات التي تعود لما قبل انتهاء العصر المطير، أي كل ما يسبق السبعة آلاف سنة، كانت كلها مغطاة بنباتات مائية هائمة:
نبات رقائق الماء watermilfoils
نبات كاتتيل cattail
نبات البردي papyrus
نبات اللوتس lotus
وجدت كذلك حبوب لقاح لأشجار من منابع النيل
البودوكاربوسPodocarpus
الصنوبر Pine
ولم أجد أعدادًا كبيرة لحبوب من أنواع نباتات آخري.
بارتياح تأكدت مما توقعت. كانت الدلتا مستنقعًا حقيقيًا يخلو من أي أثر بشري في الوقت الذي عاش فيه الناس في الصحراء.
لكن البيئة تغيرت بعد سبعة ألاف سنة قبل الآن، لنجد نباتات عشبية من فصائل بواشيا واستراسيا وارتيميسا تغزو جزيرة صا الحجر، وبجوار ذلك تزداد أعشاب مثل الرومكس والبوليجونوم والبلانتاجو في جزيرة كوم الخلجان، وهذا التكوين يشبه مرجًا تغمره المياه. وبالرغم من ظهور فطريات بقايا حيوانية في العينات، لم استطع أن استدل من ذلك علي وجود نشاط رعوي. بينما ظهرت حبوب القمح فجأة في صا الحجر منذ عام 6700 قبل الآن. ففي كوم الخلجان أصبحت متأكدة من وجود البشر من خلال ما أخبرتني به عينات تعود لعام 6800، ولكني عرفت ذلك فقط من خلال بقايا الفحم المتحلل وبقايا الروث لا القمح.
كان هذا غريبًا، إذ لم أجد أي دليل علي وجود نشاط زراعي ولم أجد نباتات زراعية، ما وجدته كان مروجًا وفحمًا وبقايا كثيفة لروث حيوانات فحسب.
من هنا استنتجت أن قاطني الموقع كانوا رعاة على الاغلب.
ابتسمت وقنها وفكرت أنه ربما ينبغي على الواحد أن يتخلي عن نزقه من وقت لآخر، فالقصة أيضا منطقية. لقد أتى صيادو الصحراء بميراث رعوي كبير بالفعل وطالما كانت البيئة غنية، وطالما كانوا يمتلكون السبيل لصيد الاسماك وقتل بعض الحيوانات بينما يمارسون رعي البقية، فلماذا سيزرعون؟
أرض النيل الجديدة كانت موطنًا غير رحب في البداية، مقارنة بالواحة. فهي مستنقع قاس فيه جزر متناثرة، تعلو مستوي مياه الفيضان قليلًا. وقد تمكن الوافدون من الصحراء، أحفاد صديقنا الراعي الصياد من العيش فوق بعضها بكثير من الحذر في البداية، وصحيح أنهم بدأوا الزراعة فوق مجموعة منها، إلا أنهم مارسوا ما اعتادوا عليه في الأماكن الأخرى: أي الصيد والرعي.
بعد بضع قرون، تحديدا في وقت ما بين عام 6000 و5500 قبل الآن، بدأت هذه المجموعات البشرية في زراعة الأرض أيضًا في كوم الخلجان.
لقد نقصت الموارد وتراجعت إنتاجية الارض الطبيعية وانكشف المستنقع. هنا سيقسمون الأرض والعمل والطبقات الاجتماعية، وسيكون وجود قاطني تلك الأرض مرتبطًا بفيضان النيل منذ الآن.
زرع البشر وقتها القمح والبقول والكتان بصورة متناثرة، ورعوا الحيوانات، جنبًا الي جنب مع القري المجاورة. عمّا قريب ستنضم قرون من الثقافة والفنون والتعقيدات المجتمعية، ستنضم طوعًا أو كرهًا، لهيمنة دولة مركزية قوية قبل ٥١٠٠ سنة من الآن.
في ذلك الوقت، أصبح السجل النباتي في كلا الجزيرتين زراعيًا في أغلبه، بل وتكثفت أعداد الحبوب التي تنم عن زراعة منتظمة في الموقعين، واستمر الوضع الف عام كاملة. لاحظنا انخفاض كبير للمجمعات النباتية المائية التي ذكرتها من قبل، ويبدو أن تصريف المياه كان يحدث بشكل متزايد لتتمايز القنوات. لم تعد الأرض مستنقعا واحدا بعد الآن، مثلما كان الحال في السابق، بل أخذت تنكشف في أجزاء عديدة.
سجلنا آثارًا تدل على الزراعة، تنخفض وترتفع في كثافتها، أرض تجف وتفيض بشكل دوري، وتأثير بشري باق. يقول لنا أصدقاؤنا من الأثريين أن السلالات الملكية الخمسة الاولي، من عام 5100 لعام 4281 قبل وقتنا الحالي كانت مستقرة، وفي ظِلها قامت أول مملكة عظيمة في تاريخ مصر، المملكة القديمة، وأثناء ذلك بني سنفرو وأبناؤه وأحفاده أهراماتهم العظيمة في الجيزة.
حتى أتي عام ٤٢٠٠ قبل الآن.
في عينات هذه الفترة انقطع السجل الرسوبي فجأة في أحد العمودين وعم السجل النباتي مؤشرات الجفاف في العمود الآخر. تحول الغطاء النباتي لما يشبه أرضًا قفرًا، هاجمت المواقع نباتات الكثبان من عائلة الاستراسيا ونباتات الارض البور.مثل الكارثاموس والسالفي.
لا أثر لزراعة في كوم الخلجان. عينات خاوية حزينة.
في عام ٤٢٠٠ انهارت المملكة القديمة، ويبدو أن مجتمع الفلاحين في كوم الخلجان وصا الحجر قد هاجروا. سأختار هاجروا، لأنني لا أحب أن أتصور أنهم قد ماتوا جوعًا أو قضت عليهم الحرب الأهلية.
كانت فترة الاضمحلال الأول عصرًا مظلمًا بكل ما تعنيه الكلمة، تفككت أقاليم الدولة، وثار الناس علي الحاكم، فسقط، وانفصل حكام الاقاليم عن السيطرة المركزية، وسادت الحرب الاهلية والقتل والمجاعة.
علي كل الأحوال، أظلم التاريخ في هاتين القريتين، ولم يعد للظهور مرة اخري قبل قرنين كاملين. ويبدو أن الناس قد بدأت رحلة العودة لصا الحجر مرة أخري في المملكة الوسطي، بل وعادت دلائل الزراعة المحلية، هؤلاء كانوا علي الأرجح مجموعات جديدة من البشر لا يجمعهم صلة بمن هاجروا، أو ماتوا، قبل قرنين.
مكنتني حبوب اللقاح من رؤية تلك المستنقعات الشاسعة وهي تنكشف في بعض أجزاءها، لترحب بالوافدين علي جزرها البكر، وأرتني ذلك المجتمع الوافد حديثًا، المرتبك بين الصيد و الرعي والزراعة لقرون، ثم أرتني في بضع طبقات من التربة، كيف تجاوزوا ارتباكهم، وأصبحوا مجتمعًا زراعيًا بالكامل.
في تربة تبدو صامتة، رأيت فلاح الدلتا الأول وهو يزرع القمح والشعير، وتصورته وهو يزرع معها ثقافة وهيمنة مقدسة، ثم رأيته في عصور الجفاف وهو يلهث إلي مكان آخر بحثًا عن رمق غذاء أخير، ولكي يختبئ من القتل في أزمنة الاضطراب، رأيت آخرين يحلون محلّه، في قريته وأرضه، ليبدأوا قريةً جديدة بتاريخ جديد.
تذكر الآن أن هذه لقطات سريعة للغاية، وموجزة جدًا للتغير الكلي، الذي ربما كان يتكرر وقتها في مناطق أخري بأشكال أخرى، في وقت مبكر من تاريخ هذه الأرض. كما أنني أتحدث عن قريتين فحسب، ونحن لا نعلم الكثير عن حكايات باقي القري في سهل النيل.
في الجيزة مثلًا، تقول نتائج بحثي أن القرية لم تخل من البشر في عصر الاضمحلال الأول، الذي تلي سقوط المملكة القديمة، بل واصلوا الزراعة، ربما كانوا مجتمعًا أكثر تماسكًا وتطورًا من قري الدلتا في الشمال، ولكن ما حدث بعد قرون في فترة الاضمحلال الثالث عام 3200، كان أن جف فرع النيل في الجيزة، ولم يعد يدهم أي زراعة أو رعي، أصبح هناك الكثير من النخيل هناك، لكن دون أي دلائل أخري لمجتمع كالسابق، ربما هاجروا أيضا ولم يعودوا حتي العصر المتأخر قبيل غزو الاسكندر الأكبر.
إذن.. يبدو أن الأمر لم يكن بسيطا بالمرة، وحفريات النباتات قد تضيء ببراعة نقاط من هذا التاريخ الملتبس، ولكنها ستظل سجلات قليلة، فلا يزال أمامنا الكثير لنعثر عليه، حتي نقدر على تجميع أجزاء حكاية شاملة لهذه الأرض، التي هي في ظني أعقد بكثير مما يخبروننا به علي مقاعد الدراسة.