الرابعة صباحًا
٣٦٠٦ كلمة
٠ تعليق

قبل عدة أشهر فقط من وصول ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي وبداية ما عرف بسياسة البيريسترويكا أو برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية التي انتهت بسقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي، بدأت مبارزة من نوع خاص بين اثنين من أعظم لاعبي الشطرنج في النصف الثاني من القرن العشرين، جاري كاسباروف وأناتولي كاربوف، مبارزة هي الأطول والأعنف في تاريخ اللعبة، إذا قاتل كل منهما الآخر على لقب بطولة العالم خمس مرات في الفترة من 1984 إلى عام 1990.

ورغم أن اللقب في الخمس مواجهات حسم لصالح كاسباروف، إلا أن الفارق في عدد المباريات التي فاز بها كاسباروف ضد كاربوف، كان ضئيلا، حيث فاز في 21 مباراة، وخسر 19 وتعادلا في 104 من أصل 144 مباراة في بطولة العالم، ربما يكونان اللاعبين الأكثر تكافؤًا وشراسة بين المنافسين الذين شهدتهم اللعبة على الإطلاق.

لقد تمتع الاثنان باحتكار لقب بطل العالم لفترات طويلة، بعد أن أصبح كاربوف بطلا للعالم في الشطرنج عام 1975-، لم ينجح أحد في تحديه على اللقب لمدة عقد كامل، حتى ظهر جاري كاسباروف، لكن منذ عام 1984 إلى عام 1990، لم ينجح أحد في تحدي كاسباروف على لقبه إلا كاربوف، في منافسة لم تنهها إلا بانسحاب كاسباروف في حركة انشقاقية من الاتحاد الدولي للشطرنج ليكون رابطة محترفي الشطرنج عام 1993.

كان كل منهما شخصيتين متناقضتين، ظهرا في لحظة محورية في حياة الاتحاد السوفيتي، الذي كان على وشك التحول، كاربوف يمثل الاتحاد السوفيتي القديم، فهو الإصلاحي المحافظ والحذر والذي يؤمن بالتغيير التدريجي، وكانت عبقريته ثمرة هذا النظام، أما كاسباروف الذي يصغره باثني عشر عاما، فمثل روسيا الجديدة التي تطالب بالتغيير الكامل، وانعكس ذلك في طريقة تعبيرهما وطريقة لعبهما، كان كاربوف متحفظاً وكتوما وهادئا، أما كاسباروف فشخص صاخب مندفع لا يتوقف عن الحركة، ويعرف كيف يخاطب الإعلام، كان كاربوف لاعبا استراتيجيا حذراً، بينما كاسباروف لاعبا تكتيكيا يعشق المخاطرة،

**

لم تبدأ قصة المبارزة الأعنف في الشطرنج عام 1984، بل تعود جذورها إلى عام 1972، عندما استقبل الاتحاد السوفيتي، نبأ الحدث المزلزل القادم من مدينة ريكيافيك بآيسلندا، عندما فاز اللاعب الأمريكي بوبي فيشر على الروسي بوريس سباسكي، ليسرق لقب بطولة العالم الذي احتفظ به السوفييت لعقود منذ الحرب العالمية الثانية.

لاستعادة شرفهم، بحث السوفييت في مواردهم البشرية الهائلة للعبة الشطرنج، حتى تمكنوا من اصطياد شاب عبقري في العشرين من عمره، وهو أناتولي كاربوف، وبعد أن لعب 60 مباراة تغلب فيها على لاعبين مهمين في منافسات بطولة العالم، فأصبح من حقه تحدي بوبي فيشر بطل العالم السابق على لقبه عام 1975، ولكن فيشر المتقلب طالب بشروط كان من الصعب تحقيقها للعب المباراة مع كاربوف، رأى الاتحاد الدولي للشطرنج أنها مبالغ فيها.

كان أناتولي كاربوف هو الثمرة المثالية التي تمثل إمبراطورية الاتحاد السوفيتي، ولد في عام 1951 في أعماق الريف الروسي بزلاتوس في جبال الأورال، ابنا لربة منزل وعامل ارتقى إلى رتبة مهندس معادن، كان سلافيا 100%، ممثلا لكل ما هو روسي خالص.

في سن الـ12، دخل مدرسة بوتفينيك المرموقة في موسكو، للشطرنج، بعد أن أثبت موهبة كبيرة، وأصبح أستاذا في اللعبة قبل أن يتجاوز الرابعة عشر من عمره في إنجاز لم يسبقه إليه أحد سوى بوريس سباسكي، وفي عام 1975، حكم عالم الشطرنج لمدة عقد من الزمان، بشكل أرضى السلطات السوفيتية، خاصة بعد أن تغلب على المنشق فيكتور كورشنوي مرتين في نهائيات بطولة العالم، لكنه في النهاية كان البطل الذي لم يهزم بوبي فيشر.

حقيقة أنه فاز باللقب حتى ولو بدون قتال، أسعدت الاتحاد السوفيتي دون شك، لكن من ناحية أخرى – وعلى الرغم من أنه ليس خطأه- ظل ذلك الفوز نقطة سوداء في سجله، لم يكن البطل راضيا عما حدث لإعلانه بطلا افتراضيا، وكذلك عالم الشطرنج بسبب شعبية بوبي فيشر الهائلة، لذا حرص كاربوف على الاشتراك في كل بطولة عالمية ممكنة، حتى إنه فاز بـ88 جائزة، أكثر من أي لاعب شطرنج آخر في التاريخ، فقط لإثبات أنه استحق لقب بطولة العالم من بوبي فيشر، وأنه كان جاهزا كي يهزمه.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبحسب ألكسندر نيكتيين مدرب فريق الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، فقد بدأ كاربوف مفاوضات سرية مع فيشر لإقامة مباراة بينهما، وهو ما سربه نيكتيين للسلطات، مما أغضب كاربوف، ليطالب بالإطاحة بنيكيتين من منصبه، وهو ما حصل عليه في النهاية، لكن نيكتيين سعى للانتقام.

**

في ذلك الوقت كانت بطولة الشطرنج لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية للناشئين تقام في فيلنيوس بليتوانيا، ومن بين المشاركين فريق أذربيجان، والذي كان بينه ذلك اللاعب الذي لم يتخط 11 عاما، والذي أدرك نيكيتين، أنه مختلف، كان ذلك اللاعب هو جاري كاسباروف، ليضمه تحت جناحه ويصير مدربه. لقد وجد اللاعب الذي سيطيح بكاربوف من عرشه.

ولد جاري في مدينة باكو بأذربيجان، الدولة التابعة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وكان والده كيم واينشتاين يهوديا، أما والدته كلارا كاسباروفا فأرمينية، وكلاهما مهندس بترول، وتشاركا في حب الشطرنج، في صباح أحد الأيام، كانا في المنزل يناقشان مسألة في لعبة الشطرنج منشورة في إحدى الصحف المحلية عندما أشار ابنهما، الذي كان عمره 5 سنوات فقط في ذلك الوقت، إلى الحل. تفاجأ والداه. بدأ غاري بلعب الشطرنج معهما، وسرعان ما فاز بالمباريات ضد والدته.

توفي السيد وينشتاين بسرطان الدم بعد ذلك بعامين، تاركًا السيدة كاسباروفا لتربية جاري بمفردها. في وقت لاحق أسقط لقب والده، واستبدله بالنسخة الذكورية من لقب أمه، دون الحرف “A” في النهاية.

على عكس كاربوف، الروسي قلبا وقالبا، المنضبط والهادئ، كان كاسباروف مزيجا من الدم الأرمني واليهودي في بيئة أذربيجانية. وعلى عكسه أيضا، كان مندفعا ومتهورا، وتحكمه والدته بيد من حديد.

سرعان ما حقق هذا الشاب المتهور كل نجاح ممكن في فئة الناشئين عام 1974، فاستحق أن يلاعب كاربوف بطل الاتحاد السوفيتي، في بطولة الشباب في لينينغراد للمرة الأولى، وهو في عمر الثانية عشر، لكنه خسر ثم عاد وتعادل معه ثلاث مرات عام 1981، التعادل مع بطل العالم في تلك السن الصغيرة، كان أمرا لافتا لكاربوف، ففي عالم الشطرنج، لا يصبح اللاعبون أبطالا بالصدفة، ويمكن التعرف عليهم صغارا، لقد أدرك كاربوف أن كاسباروف من تلك العينة، أنه سيصبح بطلا.

كان أناتولي كاربوف في تلك الآونة يستقبل في كل مكان في الاتحاد السوفيتي كالملوك، بينما كان صعود الفتى اليهودي والأذربيجاني ينظر إليه بريبة، لكن أيضا كموهبة خارقة لا تصدق، فقد كان كاسباروف في عمر 19 عاما فقط عندما كان يلعب في المنتخب الروسي، أي أنه من أفضل أربعة لاعبين في روسيا، على الرغم من وجود مواهب غير عادية في الاتحاد السوفيتي، لكنه حظى سياسيا بدعم أقل من الذي حظي به كاربوف، لكن صعود حيدر عليف، وهو من كبار الشخصيات في النظام الأذربيجاني، في المكتب السياسي، حتى أصبح نائبا لرئيس مجلس الوزراء في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية؛ مما مكنه من دعم كاسباروف.

عندما بدأت المعركة الملحمية بين كاربوف وكاسباروف، كان الاتحاد السوفيتي يعاني اقتصاديا، لكنه يعيش على أمجاد عظمته التي سمحت له بتقدم صناعي لا مثيل، وهو أمر يعكس الذكاء، ولا شيء يرمز لهذا الذكاء أكثر من لعبة الشطرنج، وإن كان الاقتصاد لا يسير على ما يرام، فما يزال لديهم أبطال العالم في الشطرنج.

في 10 سبتمبر 1984، وبعد أن أقصى جاري كاسباروف المتنافسين، استحق أخيرا أن يتحدى أناتولي كاربوف، بطل العالم على لقبه.

كن صداما بين أسلوبين مختلفين، معركة بين ملفين نفسيين مختلفين تماما، كاربوف لاعب يخفي مشاعره ويسيطر عليها، يحيط منافسيه ببطء، كثعبان البوا، الذي يخنق فريسته، ثم يسيطر تدريجيا عليها، على عكس كاسباروف الذي يهوى تدمير خصومه عبر إستراتيجية الهجوم، عاطفي المزاج، مستعد للمخاطرة

كان كاربوف مدعوما من رئيس الاتحاد السوفيتي للشطرنج، فيتالي سيباستيانوف وحظيا بصداقة قوية، أما كاسباروف كان مدعوما من حيدر عليف، لكن بعدد أقل من المدربين على عكس كاربوف.

لم يكن هناك عدد للمباريات ينبغي لعبها، لكن من يفوز بأول 6 مباريات سيحصل على لقب بطولة العالم، دون أن تكون أي أهمية لنقاط التعادل، على عكس الأنظمة المتبعة سابقا، إذ تتكون بطولة العالم عادة من 24 مباراة.

كانت بداية كاسباروف أمام كاربوف كارثية، ولم يكن بإمكانه إخفاء مشاعره، فمكَّن كاربوف من أن يرى بوضوح متى كان موقف خصمه أفضل أو أسوأ، كانت قدما كاسباروف تهتز، يضع رأسه بين يديه في يأس، ويبحث بين الجمهور بجنون عن مدربه الذي عادة ما يكون بجانبه، لقد فاز كاربوف ذي الثلاثة والثلاثين عاما، والذي يصغر منافسه بعشرة أعوام على المستوى النفسي قبل كل شيء.

بعد تسع مباريات، كانت النتيجة أربعة لصالح كاربوف، مقابل لا شيء لكاسباروف، كان المنافس الجديد على اللقب يترنح.

هنا اتفق كاسباروف مع مدربه على إستراتيجية جديدة، بعد أن أدرك قوة منافسه، كان يعلم أنه سيخسر اللقب، لكن عليه أن يقاتل كي لا يجعل ذلك سهلا. جعله ذلك أكثر هدوءاً وثقة، ودخل سلسلة طويلة من التعادلات مع كاربوف، لكن في هذه الأثناء انتظر كاربوف بصبر منافسه المندفع لارتكاب خطأ، وفي الجولة 27 فاز على كاسباروف، ليتقدم الآن خمسة مقابل لا شيء لم يعد كاسباروف يسعى للفوز، ولكن فقط لاستعادة شرفه، وكان كاربوف يعلم أن مزاج منافسه المندفع سيلحق به الهزيمة السادسة.

بدأت استراتيجية كاسباروف لكسب الوقت تؤتي ثمارها، كان مثل ملاكم يحاصره منافسه في ركن، لكنه حمى نفسه جيدا ليترك البطل يرهق نفسه ببطء، وفي المباراة رقم 32، حقق كاسباروف فوزه الأول، الذي نزل كالصاعقة على القاعة، وكان كاربوف في حالة ذهول، بعد شهرين من اللعب، لكن حدث ما لا يمكن تصوره، إذا فاز كاسباروف بمباراتين متتالتين، لتصل النتيجة إلى 5 مقابل 3.

كانت قد مرت ستة أشهر من خوض تلك المعركة الطويلة والكريهة، فقد فيها كاربوف 10 كيلو جرامات من وزنه، وبدا مترنحا يفقد الثقة بنفسه، بينما كاسباروف يلعب بشكل أفضل وأفضل.

عند تلك النقطة، أعلن الفليبيني فلورينسيو كامبومانيس، رئيس الاتحاد العالمي للشطرنج، إيقاف البطولة، والعودة إلى نظام المباريات ال 24 في وقت لاحق، مستشهدا بصحة كاربوف المتدنية بسبب طول المنافسة، وقد اختار أن يفعل ذلك في مؤتمر صحفي، عندما قرر كاسباروف الصعود إلى المنصة للاعتراض، بالنسبة له كان جاهزا للعب وحسم اللقب، هاجم كاسباروف رئيس الاتحاد العالمي للشطرنج بقوة، معلنا على المنصة أن “قراره مزحة، والجميع يعلم أنه يستطيع الفوز”

لم يكن هذا حدثا عاديا، فلأول مرة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، يحدث تمرد علني ضد النظام، إذ كان من المعروف بسيطرة اتحاد الشطرنج السوفيتي على الاتحاد العالمي للعبة متمثلا في رئيسه، ولم يكن اتحاد الشطرنج السوفيتي نفسه مستقلا، بل كان تابعا للجنة المركزية للحزب الشيوعي التي كانت في صف كاربوف. ربما كان كاسباروف محظوظا، وتمرد في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، ففي زمن آخر، كان ما فعله أقرب إلى الانتحار، لكن تلك اللحظة كما يقول كاسباروف، هي من جعلت منه بعد ذلك رجلا مختلفا، لقد صنعت منه ما هو أكثر من لاعب شطرنج، لقد صنعت منه سياسيا.

رفض كاربوف في البداية التوقيع على أوراق إيقاف المباراة، لكنه عاد وامتثل أمام إصرار المسؤولين في الاتحاد السوفيتي، بينما تصرف كاسباروف كأن النصر قد سرق منه، وأصر أن إيقاف البطولة جاء لإنقاذ خصمه من الهزيمة، ومن الانهيار العصبي الذي لحق به، وأصر أنه جاهز للعب في اليوم التالي.

بعد إلغاء البطولة، خُطط لنهائي جديد في موسكو مرة أخرى كان من المقرر أن يتم بعد سبعة أشهر، لكن في أثناء ذلك تغير الوضع السياسي بوفاة رئيس الاتحاد السوفيتي قسطنطين تشيرنينكو، في 10 مارس 1985، ليخلفه ميخائيل غورباتشوف البالغ من العمر 54 عاما قريبا، صاحب سياسة البيريسترويكا التي ستصبح العقيدة الجديدة للنظام.

في الوقت الذي أصبح فيه جاري كاسباروف متمردا في عيون العالم، قام بخطوة أخرى نحو الانشقاق من خلال إجراء مقابلة مع مجلة دير شبيجل، والتي تعد في عرف النظام السوفيتي أداة دعائية للرجعية والرأسمالية، لكنه لم يكن الرجل نفسه الذي صعد المنصة ليصنع فضيحة، بل الرجل المناهض لكل ما يمثله الاتحاد السوفيتي في لعبة الشطرنج، من خلال كسر واحدة من المحرمات بالتحدث إلى وسائل الإعلام مثل أي رياضي آخر رفيع المستوى في أي دولة غربية، يتحدث عن رئيس اتحاد اللعبة، ويقول إنه تابع للاتحاد السوفيتي للشطرنج، وأن الأمر الذي أعطاه بإيقاف المباراة بينه وبين كاربوف، كان عملا شائنا، وأنه كان يجب أن يفوز، وقد شعر الاتحاد السوفيتي بالسوء من تصريحات كاسباروف كما أزعجت كاربوف، وكذلك جعلت المفاوضات بشأن المباراة المقبلة بينهما مضطربة، لقد أصبح كاسباروف خارج نطاق السيطرة،

بسبب تلك المقابلة آمن كاربوف أنه لن تكون هناك مباراة أخرى بينهما، مما يعني أنه مازال بطل العالم في الشطرنج، كان واثقا للدرجة التي جعلته يتوقف عن التدريب، لكن بفضل رياح التغيير التي هبت على الاتحاد السوفيتي منذ أن تولى جورباتشوف السلطة، وبفضل ألكسندر ياكوفليف، عضو المكتب السياسي الجديد، وأحد نجوم سياسة البيرسترويكا، أفلت جاري كاسباروف من عقوبة الإيقاف لمدة عامين، وهي العقوبة التي أرادتها له اللجنة التأديبية في اتحاد الشطرنج، مما يعني أن المباراة ستلعب.

رغم ذلك كان الاتحاد السوفيتي بشكل عام يقف وراء كاربوف، ويأملون أن يخرج فائزا في الجولة الثانية في موسكو، وهو شيء أزعج كاسباروف، وأضاف دافعا سياسيا بجانب تعطشه كبطل للفوز للمباراة.

**

بدأت المعركة الثانية بين الغريمين في 3 سبتمبر 1985، ولتجنب اللعب إلى ما لا نهاية، حددت المباراة بينهما من 24 جولة، والمنتصر هو الفائز بعدد أكبر من المباريات، وفي حالة التعادل سيحتفظ بطل العالم بلقبه.

كان كاسباروف في مزاج جيد وأكثر استعدادا نفسيا وجسديا من كاربوف الذي لم يكن في قمة تركيزه، وهو ما منح كاسباروف بداية مثالية بفوزه في المباراة الأولى.

جزء من عبقرية كاسباروف، هو أنه يحلل أخطاءه بشكل جيد، من خلال جلسات تدريبية قد تصل إلى 12 ساعة في الجلسة الواحدة، حتى يكتشف المشكلة، أما كاربوف ولأنه سيطر على عالم الشطرنج لسنوات عديدة، لم يكن العمل بتلك الطاقة الجبارة من صفاته، وكذلك لا يشعر أن شيئا ما يجبره على الاستيقاظ قبل الثانية عشر ظهرا.

ظل البطلان متعادلين في النتيجة حتى الجولة 15، عندما وسع كاسباروف الفارق مع تبقي ثلاث مباريات فقط، ليصبح كاربوف متأخرا بنقطتين، وكان عليه أن يلعب مرتين بالأبيض ومرة واحدة بالأسود، تمكن من الفوز بمباراة واحدة بالأبيض، مما قلص الفارق إلى نقطة واحدة فقط.

كان كل شيء يعتمد على الجولة 24 والنهائية، كان كاسباروف متقدما 4- 3 على غريمه، في تلك المباراة، أخذ كاسباروف أقصى قدر من المخاطرة، مستخدما كل عدوانيته في الهجوم، ليفوز ويصبح صاحب الـ22 عاما أصغر بطل عالمي في تاريخ الشطرنج.

لقد حقق ألكسندر نيكتيين مدرب كاسباروف ومكتشفه انتقامه بعد طردته اللجنة الرياضية بالحزب الشيوعي؛ لأنه كشف أسرار المفاوضات بين كاربوف وبوبي فيشر، ولم ينس كاسباروف الكلمات التي قالها لها أستاذه بعد الفوز:

أشعر بالأسف من أجلك.. لأنك عشت أفضل يوم في حياتك والآن انتهى الأمر.

بالنسبة للشاب كانت كلمات غريبة، لكنها حكيمة أيضا، فلا يمكنك أن تذهب أبعد من أن تكون بطل العالم، وبعد القمة لا شيء سوى الهبوط إلى القاع.

رغم أنه أصبح بطل العالم، إلا أن جاري كاسباروف لم يجد الوقت الكافي للاستمتاع بلقبه، فقد أصر فلورينسيو كامبومانيس، رئيس الاتحاد العالمي للشطرنج على إعادة المباراة بينه وبين كاربوف في غضون ثلاثة أشهر.

**

رفض كاسباروف في البداية هذا الطلب غير المعقول، بينما أبدى كاربوف استعداده للعب، كان كمن يعيش حلما سيئا، لكنه اضطر للموافقة في النهاية، خوفا من استبعاده إذا ما رفض اللعب.

تلك المرة ستقام البطولة في مدينتين مختلفتين، 12 مباراة في لندن، ثم 12 في ليننجراد.

في لندن استقبلت مارجريت تاتشر كاسباروف، بوصفه ممثلا للسياسة الجديدة التي يتبعها ميخائيل جورباتشوف، بينما نُظر إلى كاربوف بوصفه ممثلا لعهد قديم.

كانت تلك هي المواجهة الثالثة بين الغريمين، والتي شهدت العديد من الحيل القذرة ومحاولات خلق ضغط وترهيب متبادل، كما شك رئيس وحدة الحراسة الشخصية لكاسباروف، أن هناك جاسوساً بفريقه، وأن هناك من يسرب خططه وتحضيراته لغريمه.

منذ الجولات الأولى لعب كاربوف بطريقة فاجأت الجميع، إذ تميزت بالعدوانية والشراسة وهو ما لم يكن أسلوبه على الإطلاق، فقد أدرك كاربوف أنه يدخل حقبة رياضية جديدة، ومن أجل الفوز عليه أن يعمل بجدية أكبر، وأن يغير من أساليب عمله وتنظيم فريقه وموظفيه حول جلسات تدريبية أكثر، تغيير نمط حياته، بل ونظامه الغذائي، ليصبح أكثر استعدادا لتحمل لعبة تحتاج إلى كامل تركيزه العقلي لمدة قد تتخطى الخمس ساعات في المباراة الواحدة.

كان لكاسباروف رأي مختلف حول استراتيجية خصمه الجديدة، إذ شعر بعد المباراة الخامسة أن كاربوف يعلم ما يفكر فيه مسبقا، وأخبر مدربه أنه يتعين عليه أن يجد تفسيرا لهذا الشعور الغريب، واضطر إلى التكيف مع استراتيجية خصمه الجديدة ليتحول إلى اللعب مدافعا، وتقدم 2- 1 على كاربوف، في جولة لندن.

عندما بدأت جولة لينينجراد، كان كاربوف مدعوما من السلطات، بل ومن الجمهور، الذي تجاوب مع أسلوب كاربوف العدواني، وظل يصرخ متحمسا: اقتله.. اقتله يا كاربوف، كان الضغط النفسي على كاسباروف رهيبا، في ظل أنه كان ما زال شابا صغيرا في النهاية.

تمكن كاربوف من الفوز ثلاث مباريات متتالية، لم يخسر كاسباروف من أي شخص كان ثلاث مرات متتالية إلا من كاربوف. كان موقفا صعبا، ازدادت ثقة كاربوف بعد أن جرب استراتيجية جديدة بعد الجولة السابعة عشر ورؤيته لتجاوب كاربوف المرن معها أن لدى غريمه مصدرا للمعلومات داخل فريقه.

بدأت عملية مطاردة الجاسوس في معسكر كاسباروف، أزالوا الهواتف في جميع غرف الفندق، ثم قررت والدته كلارا كاسباروفا الاتصال بالغرف، أجابها أحد مساعدي ابنها، فلادميروف، الذي احتفظ بهاتف سرا وهو ما يعني ببساطة أنه الجاسوس، فطرد فورا من الفريق.

بغض النظر إن كانت مسألة الجاسوس حقيقية أم نتاج شعور بالبارانويا مرتبط بلاعبي الشطرنج، فما أن طُرد فلادميروف حتى أنهى كاسباروف البطولة فائزا بخمسة انتصارات مقابل أربعة ليتوج أخيرا بطلا للعالم، والتي ربما تكون أصعب تحدي على اللقب في تاريخ بطولات الشطرنج، ليبدأ أخيرا عهد كاسباروف.

**

واعتقد كاسباروف أنه انتهى من خصمه القديم، لكنه كان مخطئا.

بعد خسارة لقب العالم، أظهر كاربوف ولعدة بطولات، أنه الوحيد القادر على تحدي بطل العالم الجديد على لقبه، في الشطرنج يعد ذلك حالة فريدة من نوعها، إذ من المعتاد أن من يخسر اللقب، يبدأ رحلة هبوط إلى القاع، ولا يعود إلى المنافسة من جديد في المباراة النهائية لبطولة العالم.

في عام 1987، أقيمت بطولة العالم للشطرنج في إشبيلية بإسبانيا، وكان أمرا استثنائيا أن تلعب الفرق السوفيتية خارج الاتحاد السوفيتي، خلق ذلك وضعها جديدا، هو إمكانية أن يتحدث الرياضيون مباشرة إلى الإعلام، وفي المؤتمرات الصحفية بعد كل مباراة، كما كانت المباريات تبث على الهواء مباشرة من التليفزيون الإسباني، حيث بدا الجميع مفتونين بالتغيير الذي أعقب إطلاق سياسة البيريسترويكا.

كان كاسباروف قد نشر سيرة ذاتية قبل المباراة النهائية التي تجمعه مع خصمه من جديد، صور فيها كاربوف كرجل من الماضي ودمية لنظام فاسد محكوم عليه بالاختفاء. كان كاسباروف الشاب قد أصبح شديد الثقة إلى درجة العجرفة، مع نجاحاته المدوية كلاعب شطرنج في سن صغيرة، ولم يعد يعامل مدربيه بوصفهم أساتذة بل زملاء، عندما يعاين كاسباروف الآن تلك الفترة، فإنه لا ينظر إليها بعين الفخر، ويبررها بصغر سنه.

في البطولة، كان كاربوف صاحب الـ36 عاما، على عكس ما صوره كاسباروف، كان ما زال نشطا، وفي جعبته الكثير ليقدمه للعبة، حتى إنه ظل متقدما على كاسباروف حتى الجولة رقم 24، وكل ما كان يحتاجه لاستعادة لقبه هو التعادل، وهو ما يعني أن نسبة فوزه باللقب مرتفعة جدا، فكل ما عليه أن يفعله أن يدافع بشكل متقن، لكن كاسباروف فاز بالمباراة، وصارت النتيجة 12 مقابل 12، وهو ما يعني أن كاسباروف حسم اللقب من جديد، وأنه صار ملك اللعبة لمدة ثلاث سنوات إضافية.

في تلك الفترة أصبح كاسباروف من مشاهير الشطرنج في جميع أنحاء العالم، وضاعف من سحر صورته العامة في المعارض والمؤتمرات والدعاية، ليضخ حياة جديدة في لعبة الشطرنج، وأضاف بعدا مربحا لها بعيدا عن مكافآت الفوز ليضمها إلى بيزنس الرياضة، مطورا برامج الكمبيوتر للعب الشطرنج.

في أثناء ذلك كان الاتحاد السوفيتي ينهار، فشلت سياسة البيروسترويكا، التي أعلنها جورباتشوف، ولم ينتج عنها سوى أنها أفقرت البلاد أكثر وأكثر.

نأى كاسباروف عن النظام السوفيتي أكثر وأكثر، وصار أقرب لليمين الرأسمالي، وكان يؤمن فقط بسياسات رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، بينما واصل كاربوف الذي ظل مؤمنا أكثر وأكثر بالنظام والسلطة، انتصاراته في اللعبة، حتى تمكن من مواجهة كاسباروف مرة أخرى على اللقب للمرة الخامسة في نيويورك بأمريكا وليون بفرنسا.

سترسم وسائل الإعلام الأمريكية المنحازة صورة بالأبيض والأسود عن جانب واحد من كاربوف، مختزلة إياه في صورة الشيوعي وعضو الحزب الذي منح وسام لينين من قبل بريجنيف، بينما رسمت كاسباروف كرمز للتغيير المناهض للشيوعية، وكوجه لطيف ومقبول إعلاميا.

نشر كاربوف سيرة ذاتية قبل أيام من المباراة، ليرد الصاع لكتاب كاسباروف الذي قال فيه أشياء قاسية مثل أن كاربوف يملك جانبا مظلما، وأنه يمثل الشر، كاسباروف ادعى أنه لم يقرأه ليحافظ على تركيز.

خلال المسابقة في نيويورك، كان كاسباروف قد تحرر سياسيا، وأنشأ حزبه الخاص، ولتسليط الضوء على الحزب، رفض اللعب تحت علم الاتحاد السوفيتي، وقرر اللعب تحت العلم الروسي القديم كنوع من إبراز الموقف السياسي، وهو ما تسبب في أزمة حين وصل بالعلم الروسي للعب المباراة، احتج كاربوف حينها بحسم، ففي ذلك الوقت لم يكن ذلك العلم معترفا به من قبل السلطة، وانتهى الأمر بحل وسط، أن يلعب الاثنان بدون أعلام.

كانت المواجهة الخامسة والأخيرة، قوية ومشوقة حتى النهاية، وبعد فترة طويلة من قتال الثنائيين المنهكين، لم يتمكن أحدهما من هزيمة الثاني بشكل ساحق.

في المباراة الأخيرة كان كاسباروف يلعب الأبيض، وقد هاجم بعدوانية وشراسة، في معركة عض الأصابع تلك، انهار كاربوف أولا، حرفيا حيث أصيب بانهيار عصبي، وعندما طالبه كاسباروف بقبول التعادل لم يملك سوى الموافقة، ليحتفظ كاسباروف بلقبه، بفارق ضئيل عن منافسه اللدود.

بالتأكيد كان كاسباروف لاعبا أفضل، يعطي كل تركيزه للعبة. أما كاربوف الذي كان لديه أنشطة أخرى، فلم يستعد بقوة إلا عندما اقتربت المواجهة الأخيرة التي التقى فيها البطلان السوفيتيان، وبعد عام من تلك المواجهة سيتفكك الاتحاد السوفيتي.

في عام في 1993 انشق كاسباروف من الاتحاد الدولي للشطرنج ليكون رابطة محترفي الشطرنج، ويواجه نيجل شورت الإنجليزي على لقب بطولة العالم. وفي العام 2000 انتزع فلاديمير كرامنيك لقب بطولة العالم من كاسباروف. وحاز كاربوف لقب بطولة العالم للاتحاد الدولي للشطرنج بين العامين 1993 و1999.

واصل كاربوف حياته كمؤيد قوي لسلطة فلاديمير بوتين، أما كاسباروف فقد أعلن اعتزاله للشطرنج في 10 مارس 2005 كي يتفرغ للسياسة والكتابة، حيث أسس حركة سياسية أطلق عليها الجبهة المدنية الموحدة، وانضم إلى تحالف معارض للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسمى “روسيا الأخرى”، في 2008 أعلن ترشحه لرئاسة روسيا، لكنه اضطر للانسحاب لعدم استيفائه للعدد المطلوب من الأصوات للترشح، واعتبر كاسباروف رمزا من رموز معارضة الحكومة الروسية، لكن الدعم الذي تلقاه كمرشح كان ضعيفا.

اعتقل كاسباروف لمدة خمسة أيام؛ بسبب مظاهرة ضد نظام بوتين الذي اعتبره نظاما ديكتاتوريا.

في أثناء فترة سجنه القصيرة، أراد أناتولي كاربوف، زيارته، لكنه لم يكن قادرا على المجيء لرؤيته، لكنه تواصل معه عبر وسيط، كانت لفتة تضامن بين أبطال العالم في اللعبة وضعت خلافاتهما السياسية جانبا، وعنت الكثير لكاسباروف، جعلته يراجع الطريقة السلبية التي شعر بها تجاه خصمه.

لكن قبل ذلك بكثير، وبعد عام من المواجهة الأخيرة، صرح قائلا في مقابلة أجرتها معه صحيفة أمريكية “كاربوف خصم عظيم، المشكلة الكبرى لأي بطل عالمي، أنه بمجرد حصوله على اللقب، لا يصبح لديه أهداف جديدة، لقد كنت محظوظا بوجود كاربوف، فبدونه لم أكن لأصبح أقوى”

**

مصادر:

Karpov v Kasparov: The Soviet Chess Rivalry Of The USSR | Two Kings For A Crown | Timeline

The Longest Game: The Five Kasparov-Karpov Matches for the World Chess Championship

Karpov v Kasparov: the Guardian’s coverage of an epic world chess championship match

Kasparov and Karpov Anticipate a Chess War

ENEMIES: A CHESS STORY : Kasparov and Karpov Share Two Passions: Their Love of Chess and Their Hatred for Each Other

شارك هذا الـمقال