الرابعة صباحًا
١٢٦٣ كلمة
٠ تعليق

في البداية أراد والد رامون لابنه أن يحترف الطب. مهنة العائلة. لكن رامون كان روحًا حساسة لا تطيق الطب ولا السوائل الجسدية. قرر الأب إرسال ابنه إلى ساحة الحرب، قسرًا، كي تكسبه صدمة العنف والدم المراق شجاعةً واعتيادًا على الألم، كما يفترض بأي طبيب أن يكون.

لم تفلح قسوة الأب، ولا صدمة المعارك التي شارك فيها مع الجيش الأسباني أثناء حملته على كوبا، في إثناء رامون إي كاخال عن قراره الرافض لممارسة الطب، بل إن الحرب روّعته وهزت وجدانه، وخلقت فيه رغبة للبحث عن أصل كل شئ. القسوة والعنف. وعن السبيل لإصلاح ما يفسدانه في العقل البشري؛ حينها شرع في دراسة التشريح، وبالتحديد تشريح المخ البشري.

كان الإجماع تلك الأيام، أوائل القرن العشرين، مستقرًا على فكرة تقول بأن المخ البشري هو المكان الذي ينشأ فيه العقل، وإن كانت معرفتنا به قد اقتصرت على ما تسمح به عمليات التشريح البسيط.

قطّع كاخال عيناته شرائح رفيعة، وأمعن في فحصها مجهريًا، درجة بعد درجة؛ حتى اكتشف الخلايا العصبية. الوحدة الأولى للمخ البشري. للبيت الذي يسكنه العقل. الخلية التي كان رامون إي كاخال يحلم بأن تكون لها قدرة التجدد والتعافي من أجل تحقيق خلاص شخصيّ.

رسم كاخال أول تمثيل تشريحيّ للخلايا العصبية المتصلة ببعضها، مُكوّنة شكلًا يشبه الشجرة. رسم بالحبر الأسود على خلفية ورق مائل للصفرة، لا تزال هذه الرسمة الأولى لتحت المهاد مستخدمة في كتب التشريح حتى اليوم، ومحفوظة في متحف كاخال بمدريد.

أزعم أنها أجمل خطوط رأيتها في حياتي.

في عام ١٩٠٦، حاز كاخال على جائزة نوبل في الطب، لاكتشافه الخلية العصبية بينما كان يبحث عن العقل البشري، لا أعلم دقة الجملة التي نسبها إدواردو جاليانو، الكاتب الأوروجواني، في كتابه أبناء الأيام، إلى كاخال، أن “حديقة الخلايا العصبية تولّد عواطف فنية لا تضاهى”، ومهما يكن من أمر، فإن حديقة كاخال الأيقونية تولد -بالفعل- عقلًا بشريًا مذهلًا ووعيًا يعجز العلماء والفلاسفة على السواء عن تفسير نشأته.

في الفصل الأول من كتابها “التعقيد: رحلة مخططة” وضعت أستاذة الذكاء الاصطناعي بجامعة بورتلاند، ميلاني ميتشيل صورة للخلايا العصبية التي رسمها كاخال وتحتها صورة أخرى للمخ بتقنية الرنين المغناطيسي، التقنية التي نشأت في سبعينيات القرن العشرين، وتحتها سؤال بسيط شديد التعقيد: كيف تتصرف الخلايا العصبية بطريقة تُخرج لنا المخ كما نعرفه؟

لا تسأل ميتشيل سؤالًا عن الوعي، لم نصل إلى هذه المرحلة حتى، بل تسأل السؤال البسيط: كيف لوجود خلية عصبية بجانب أخرى، وجوارهم ثالثة، فرابعة.. أن يُشكل شجرة عصبية، تستطيع قراءة الروائح وتذكرها؟ كيف تحدث الأشياء المعقدة من الأشياء البسيطة؟ كيف تولد حديقة كاخال عواطف فنية لا تضاهى؟

تهتم نظرية التعقيد بوصف هذه الظاهرة العجيبة، مجموعةٌ من أشياء بسيطة تجتمع لينتج عن اجتماعها كيان معقد، يُظهر خواصًا أكثر تركيبًا بكثير من مجموع أجزائه. المخ البشري مثال ممتاز على النظام المعقد: في الأصل هي مجموعة من الخلايا العصبية البسيطة، لا تستطيع الواحدة منها أن تتحكم في ذراع أو تقرأ إشارة من الشبكية، لكن المجموعة تستطيع فعل ذلك بسهولة. لماذا؟

عادة ما يتعامل المنشغلون بنظرية التعقيد مع مستعمرة النمل بوصفها المثال الأوضح على النظام المعقد. قد ينظر للمرء للنملة الواحدة ولا يرى فيها إلا كيانًا تافهًا، والحال كذلك مع النملتين والثلاث. أما المستعمرة فهي نظام بيئي هرمي لدرجة مذهلة، فيه تقسيم للأدوار وبراعة هندسية، وطريقة لا مثيل لها في استخدام الإشارات الكيميائية للتعرف على أماكن الغذاء المتاحة. ولا يوجد لدينا ما يفسر الانتقال من مستوى تفاهة النملة المُفردة إلى مستوى تعقيد المستعمرة.

لا تقدم نظرية التعقيد إجابة حاسمة عن سبب وجود التعقيد في العالم كما نراه، بل تتوقف عند وصفه فحسب، وتتبع صوره المنتشرة في أشكال الحياة: الجهاز العصبي، الجهاز المناعي، خلية النحل، الوحدات الفيزيائية الأساسية المكونة للكون، اقتصاد السوق، وحتى الذكاء الاصطناعي.

هنالك دائمًا مرحلة حرجة، لحظة تجتمع فيها تلك العناصر المفردة لتُظهر خاصية ناشئة، كما يحلو للمنشغلين بهذه المساحة أن يطلقوا عليها، لحظة النشأة تلك (Emergence)، هي واحد من أهم المفاهيم في نظرية التعقيد. يكتسب النظام المعقد صفة جديدة ناشئة، لا يمتلكها أي مكوّن من مكونات هذا النظام.

بإمكان المخ البشري قراءة رواية وفهم الكوميديا، لكن ليس بإمكان الخلية العصبية المنفردة فعل ذلك، والسؤال المنطقي هنا هو كيف نشأت تلك الخواص الجديدة عند الانتقال من مستوى لمستوى؟ من شجرة خلايا عصبية إلى المخ البشري، ومن الإنسان الفرد للمدينة ذات الروح والشخصية الجمعية؟ من أي سحر تظهر الصفات الناشئة؟ وما سر شيوع ذلك النمط من البساطة التي تتحوّل إلى تعقيد؟

منذ أن تعرّفت على نظرية التعقيد للمرة الأولى، وأنا أشعر بأنني وجدت أسئلة أفضل، وأكثر انضباطًا وتماسكًا مقارنة بالأسئلة التي شغلتني زمنًا. كيان معقد يتصرف بطريقة لا يمكن إرجاعها إلى الوحدات التي يتكون منها. ومن هذه اللحظة بالذات يظهر لغز تحاول نظرية التعقيد فهمه.

في كتابه الجميل “حواشٍ على نظرية التعقيد”، يفرد أستاذ الباثولوجيا الإكلينيكية نيل ثيس صفحة كاملة للأشكال الكسورية (fractals). عند مستوى معين من التكبير، تبدو نهايات الشجرة العصبية، ونهايات الشجرة النباتية، ونهايات الشجرة الوعائية، ونهايات تفرعات الأنهار، تبدو جميعها بالصورة نفسها: شكل ماندلبرو (Mandelbrot set)، تشترك كافة تلك الكيانات في كونها كيانات معقدة ذات وحدات أولية بسيطة، وأنها تمتلك زمرة من الخواص الناشئة. لكننا لا نجد إجابة لسبب ظهور هذه الخواص. وهنا يأتي ستيورات كاوفمان عالم الأحياء التطورية، الذي يقترح أن الأنظمة البيولوجية المعقدة تستطيع دومًا تحقيق المُمكن المتاح (Adjacent Possible).

تهيم نملة مفردة في المحيط المجاور لمستعمرتها، تقع على مصدر طعام، تحمله وتترك أثرًا كيميائيًا في طريق عودتها للمستعمرة، يسمح لأي نملة هائمة أخرى من تقصي مصدر الطعام، وتترك تلك أثرًا كيميائيًا معززًا للأثر الأول، في غضون دقائق تتكوّن مجموعة من النمل على مصدر الطعام، حتى ينتهون من نقله، ثم يخفت الأثر الكيميائي بعدها. هذا هو التعقيد، لكن تلك العملية تخضع لعشوائية منظمة، للبيئة المحيطة بالمستعمرة، لما قد تصادفه النملة أو لا تصادفه، لما قد يصيب النمل جملة واحدة، وحينها ستنشأ صفات جمعية أخرى، سيجد النمل طريقة، لن تتوقف المستعمرة عن البحث عن الممكن، وهو أمر لا تدرك النملة المفردة أنها تفعله أصلًا.

يمكن للحديث عن التعقيد أن يحيلك لكل علم ممكن، حتى الثورة هي خاصية ناشئة، عند قدر معين من المحتجين، ومن الغضب البشري المستعر، يتحول الشغب والتخريب لثورة، حتى الاقتصاد الكينزي به خواص ناشئة، ما الذي جعل التيوليب يخلب لب أوروبا في القرن السابع عشر، لحد أن بصيلاته كانت تباع بأسعار خرافية، ثم يفقد حظوته فجأة ويصبح نباتًا عاديًا؟ ما الحركة الدائمة على سطح بحر العالم؟

والوعي، وعينا بالعالم، هو أكثر الصفات الناشئة إثارة للجنون ولانقسام الفلاسفة وعلماء الأعصاب في تفسيرها. يعتقد الماديون الإقصائيون أن كافة الصفات البشرية وصور السلوك يمكن عزوها ببساطة لأصل بيولوچي، وأنه إذا تقدم العلم بما فيه الكفاية، سنستطيع أن نفحص الحب تحت المجهر أو نراه في جهاز الرنين الوظيفي. سيمكننا أن نعزل فكرة. ونرد الإنسانية لأصل بيولوچي مباشر. لا يوجد أي تعقيد، بل هو مجرد فراغ معرفي تملؤه المعلومات المناسبة فور الوصول إليها.

على الجانب الآخر، فهناك من يرى أن طريقة النظر تلك إلى التجربة الإنسانية تختزلها في أصل بيولوجي فحسب.

تستطيع الخلية العصبية أن ترى لون الدم. أحمر. لكنها لا يمكن أن تشعر بالنفور منه، النفور خاصية ناشئة، الذات البشرية خاصية ناشئة لا يمكن تفسيرها بالإحالة للوحدات المكونة للجسد البشري.

كان رامون إي كاخال يبحث عن تلك اللحظة. أراد أن يمسك الخاصية الناشئة التي أسماها “روح الإنسان” وتشريحها بمشرطه، لكنه توقف، هو ومشرطه، عند حدود حديقته العصبية ولم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. لكن الفكرة كذلك أن أحدًا لم يصل حتى الآن إلى ما هو أبعد، إلى يد الله كما يقول التعبير الشائع. يستمر الجميع في المراقبة، وتستمر الصفات الناشئة في الظهور والاختفاء والإبهار ودفع أصحاب الفضول للانكباب على المجهر، أو أي أداة أخرى، بحثًا عن أصلِ لما يرونه في العالم من أشياء وظواهر، عبر تبسيطها إلى عناصرها الأوّلية. لكن النتيجة ليست دائمًا مرضية. فلا أحد يعرف بالضبط متى تتحوّل الشجرة إلى غابة، ولا متى تبدأ مجموعة من الأشجار في التصرّف كغابة، لها نظامها الداخلي، وتأثيرها على البيئة وتأثرها بها، كوحدة واحدة لا كشجرة وشجرة وشجرة وشجرة..

النملة التي سكنت عقل رامون إي كاخال

لحظة الذروة: البداية هي الكلام عن الخلية العصبية

وبعدها ننتقل إلى الكلام عن مختلف اشكال الخلية

لحظة الذروة هي النهاية

شارك هذا الـمقال