الرابعة صباحًا
٩٥٥ كلمة
٠ تعليق

في الفلكلور الألماني قصةٌ عن رجل يملك مجموعة رصاصات ستصيب الهدف حتمًا حين يطلقها، مهما كان ذاك الهدف مستحيلًا. نفس القصة كانت إلهامًا لأول أوبرا ألمانية رومانسية، تحمل نفس الاسم: القناص/النشانجي.

في الفصل الأول من هذه الأوبرا، يتعرّف البطل، واسمه ماكس، على رصاصاته السحرية، إن أصابت الهدف في المسابقة المنتظرة، سيتمكّن من الزواج بحبيبته، والحصول على وظيفة أحلامه. لكن مع نهاية الفصل الأخير، نكتشف أن الرصاصات ملعونة، وأن صديق ماكس الذي دلّه عليها، بدافع من الغيرة والحقد، قد عقد صفقة من الشيطان نفسه، والثمن هو مقتل الحبيبة، وفوز الشيطان بروح ماكس نفسه.

في غالب الأمر، لم يكن هذا كله واضحًا في أفكار الطبيب الألماني الشهير باول إيرليش (Paul Ehrlich)، حين أدخل مصطلح “الرصاصة السحرية” إلى عالم الطب الحديث، وذلك في ختام مقالته المنشورة سنة 1891 بعنوان “دراسات تجريبية في المناعة”، وإن كان المصطلح في العالمين يثير التأمل بالتأكيد.

استخدم إيرليش مجاز الرصاصة السحرية للإشارة إلى أداة لا تخطئ هدفها، تقتل الميكروب دون أن تضر بخلايا الجسم نفسه، ما يطلق عليه الطب الحديث الآن: السُمية الانتقائية. نستهدف الخلايا المريضة دون الإضرار بالسليمة.

كان إيرليش قد استمد فكرته من ملاحظته للصبغات الطبية: فبإمكان بعض الصبغات أن تصبغ خلايا بعينها، دون غيرها. نظرية إيرليش كانت أن الخلية حين تتعرض للخطر تخرج منها ما يشبه الأذرع، فترتبط بالسُم، تخيّل إيرليش أن خلايا الدم البيضاء، وهي المسؤولة عن مكافحة العدوى في الجسم، تخرج من كل نوع منها أذرع تلعب دور روابط كيميائية مع المستضدات (Antigens)، وأن تلك الأذرع تنفصل بعدها عن الخلية لتصير “أجسامًا مضادة” تسري في الدورة الدموية.

أدى به ذلك إلى فكرة نعتبرها الآن بديهية من بديهيات الطب الحديث: ماذا لو استغللنا ذلك لاستهداف مسببات المرض دون إيذاء الخلايا السليمة.

قد تبدو هذه الفكرة بديهية لكثير من المتخصصين اليوم، لكنها كانت مثار استهزاء الأطباء وقتها، بوصفها مستحيلة تمامًا. في عالم ما قبل رصاصات إيرليش السحرية، لم تُكن الأدوية، مثلما نسميها الآن ببساطة ولا اكتراث، تُصَمَم لاستهداف أمراض بعينها، بل كانت علاجات شديدة العمومية. طريقة نستخدمها لعلاج مجموعة أعراض لا يجمعها رابط محدد.

الفصد مثلًا، يمكننا التعامل معه بوصفه مثالًا على علاج “موحد المقاس”، علاج يناقض تمامًا فكرة باول إيرليش. كان من الشائع كذلك اتباع نهج “التجربة والخطأ”، حيث يُستخدم علاج تلو الآخر، دون فهم حقيقي للآليات المسببة للمرض نفسه. وأحيانًا كان الطبيب يكتفي بالحركة على سطح المرض، فيعالج الأعراض نفسها، لا المرض، إلى أن يتكفل جسم المريض بالقضاء على سبب الأعراض. ولم يكن غريبًا كذلك حينها التدخل الجراحي لإزالة النسيج المتضرر أو لإصلاحه، أو القيام بعمليات بتر لمنع انتشار العدوى.

لكن كل رصاصة تحتاج هدفًا تُصمم على أساسه، ولا تستهدف غيره. كان الزهري وقتها مرضًا يعاني منه 10% من سكان لندن على الأقل حسب الإحصائيات المنشورة عن عامي 1911-1912. وتصادف أن اكتُشفت البكتيريا المسببة للزهري سنة 1905. فكّر إيرليش: إذا استطعنا تصميم رصاصة كيميائية لتستهدف البكتيريا المسببة للزهري، دون غيرها من خلايا الجسم وأنسجته السليمة، فستكون تلك رصاصة سحرية بامتياز، وقد كان.

كان العلاج الرئيسي للزهري على مدار 200 عام قبل أبحاث إيرليش هو الزئبق. لكنه لم يكن علاجًا للزهري فقط، بل شملت استخداماته علاج الميلانخوليا، والإمساك، والإنفلونزا، والطفيليات. وفي حالة الزهري، كان يُستخدم في شكل مرهم، أو حتى كبخار في حمامات البخار، لمدة قد تصل عامين، مع أعراض جانبية خطيرة، حتى أن التسمم المزمن بالزئبق صار مرضًا في حد ذاته، هو متلازمة ماد هاتر، التي تتسم بالقيء، والطفح الجلدي، والرعشة، والقلق.

تحكي المجلة الطبية البريطانية (British Medical Journal) مثلًا عن امرأة استخدمت أقراص الزئبق كعلاج موضعي لعدوى الزهري، عن طريق الدش المهبلي، وخلال 6 أيام من ذلك، كانت قد اصيبت بألم وتقلصات وإسهال وقيء مستمر، ثم فشل كلوي، قبل أن تموت في السابعة والعشرين من عمرها.

نحن أمام علاج قد يكون أخطر من المرض نفسه! هذا ما قاله عقلاء كثيرين، لكن رأيهم ظل على هامش الممارسة الطبية حتى توصلت أبحاث إيرليش إلى الرصاصة السحرية الأولى في تاريخ الطب: المركب 606.

الرقم 606 لم يكن عشوائيًا، فقد جرب إيرليش وفريقه قبله 605 مركبًا قبله على مدار ثلاث سنوات متواصلة، للوصول إلى مادة ذات أقصى فاعلية في العلاج وأقل ضرر ممكن للخلايا.، ليُطرح الدواء فورًا في السوق تحت اسم سلفارسان (Salvasrsan)، ويتربع على عرش الأدوية الأكثر مبيعًا لثلاثين عامًا تقريبًا.

لكن رصاصة إيرليش السحرية لم تكن سحرية تمامًا. فلم يكن الدواء فعالًا في المراحل المتقدمة من المرض، كما أنه لم يكن خاليًا من الآثار الجانبية كما أمِل إيرليش، وجزء لا يُستهان به من تلك الآثار الجانبية كان سببه صعوبة تحضير الدواء نفسه للاستخدام. لكنه ظل أفضل الخيارات المتاحة، ونموذجًا تجريبيًا أول، جرى تطويره بعدها، وصولًا إلى نسخة جديدة بآثار جانبية أقل، هو نيو سلفارسان، الذي صمَد في السوق لثلاثين عامًا قبل ظهور الرصاصة السحرية التالية: البنسلين.

قد يكون البنسلين فعلًا أحد أهم الابتكارات الطبية على الإطلاق، وهو بالتأكيد أكثر فاعلية من سلفارسان، المجهول تقريبًا الآن. لكن ما يضع سلفارسان في مكانة مختلفة أن اكتشافه غيّر تمامًا النموذج الطبي السائد وقتها. صارت لدينا خطة، تبدأ من اكتشاف مسبب المرض، ثم تجربة مادة بعد أخرى لتحقيق أقصى فاعلية ممكنة وأقل ضرر ممكن في نفس الوقت.

لولا سلفارسان ما كان البنسلين، ولولا أبحاث إيرليش في مجالَي المناعة والكيمياء التي أدت في النهاية إلى حصوله على جائزة نوبل في الطب، ما ظهرت فروع كاملة من الطب، أشهرها العلاج الكيميائي، الذي يقوم بصفة أساسية على مفهوم “السُمية الانتقائية” الذي ابتكره إيرليش، لاستهداف الخلايا السرطانية بالسموم، مع الحد من الضرر الذي تتعرض له الخلايا الطبيعية قدر الإمكان.

الاكتشاف الذي يتجدد مع كل رصاصة سحرية جديدة، من سلفارسان إلى البنسلين، فالإنسولين، فمضادات الأكسدة، والعلاج الجيني، والعلاج المناعي، أنه لا توجد رصاصة سحرية مثالية تمامًا، رغم أن كل واحد من هذه العلاجات قد وعَد بالكثير، وبعضها قد حقق الكثير بالفعل، لكن الموازنة السحرية بين الفاعلية والضرر ظلت أقل قليلًا من أن تكون مثالية، ويبدو أنها ستستمر ما استمر الطب، إما أن تكون الفاعلية أقل مما تعد به الرصاصات السحرية، فلا تفي بكل ما تعد به، أو أن يكون الضرر الناجم عنها أكبر من أن توصَف بالمثالية.

شارك هذا الـمقال