يحمل تاريخ العلم كثيرًا من الحكايات المثيرة، تختفي مع اتضاح الصورة، ولا تجد لها مكانًا أو تمحوها التفاصيل.
بعض هذه الحكايات عن نظريات جميلة ومبهرة، إلا أن الجمال لا يكفي مطلقا لاعتماد نظرية علمية، فنحن بحاجة دائما للدليل، ولا يقف الدليل طوال الوقت في صف الجمال البحت. كثير من حكايات تاريخ العلم عن نظريات جادة، مَثَّلت محاولات مخلصة لكشف أسرار العالَم، حتى لو اختفت في النهاية وأزاحتها رؤى أصَّح، فقد أسهمت في رسم تلك الرؤى الأصح بطريقة أو أخرى. كما أنها تكشف عن الطريقة التي يفكر بها البشر ويحاولون جمع القطع المتناثرة وتخيل القطع الناقصة من أجل رسم صورة كاملة، تعينهم على مقاربة العالَم والتعامل معه.
الوراثة والدي إن إيه
ترتبط إحدى هذه الحكايات بالوراثة والحمض النووي، إلا أن السؤال عن الموضع الذي نبدأ منه القص سؤال صعب. فلكل الحكايات بدايات كثيرة ومتداخلة. هل نبدأ من حيث أثبت مندل أن الصفات تُوَرَّث في هيئة وحدات مستقلة، أم من حيث طرح والتر سوتون وثيودور بوفيري أن المعلومات الوراثية تحملها الكروموسومات وهي تراكيب موجودة بداخل النواة وتتكون من الحمض النووي (الدي إن إيه) وبروتينات.
أم من حيث الجدل الذي ثار في المجتمع العلمي حول المركب الذي يحمل الشفرة الوراثية (بروتينات الكروموسومات أم الحمض النووي منزوع الأكسجين (الدي إن إيه)؟
اكتشف الكيميائي فريدريك فيشر الدي إن إيه في أواخر ستينات القرن التاسع عشر. وفي النصف الأول من القرن العشرين صرنا نعرف بفضل جهود فيبوس ليفين وإروين تشارجاف أن هذا الدي إن إيه يتكون على الأرجح من نيوكليوتيدات، يتكون كل منها من قاعدة نيتروجينية وسكر ريبوزي منزوع الأكسجين وجزئ فوسفات، أما القواعد النيتروجينية فهي أربعة (الأدنين والثيامين والجوانين والسيتوزين)، كما أن عدد جزيئات الأدنين يساوي دائما الثيامين وعدد جزيئات الجوانين يساوي دائما السيتوزين.
في النصف الأول من القرن العشرين بدأنا نعرف تركيب بعض البروتينات بالفعل وكان من الواضح تماما أنها أكثر تعقيدا بكثير من الحمض النووي، إذ تتكون من عشرين حمضا أمينيا، في حين لا يحتوي الحمض النووي إلا على أربعة قواعد نيتروجينية. إن معلومات معقدة مثل معلومات الوراثة بالتأكيد يحملها جزئ معقد، ما دفع الغالبية إلى الظن في أن البروتينات هي الحاملة بالتأكيد للمعلومات الوراثية، إلا أن البعض راهن على الدي إن وإيه وربح الرهان بالفعل، إذ تغير كل شيء مع نشر واطسون وكريك لورقتيهما البحثية في خمسينات القرن العشرين، إذ كشفت للعالَم التركيب التفصيلي للدي إن إيه، حيث اتضح أنه لولب مزدوج، يقع هيكل السكر الريبوزي منزوع الأكسجين ومجموعات الفوسفات إلى الخارج، في حين تقع القواعد النيتروجينية إلى الداخل، تشبه القواعد النيتروجينية درجات السلم، يرتبط الأدنين دائما بالثيامين ويرتبط الجوانين دائما بالسيتوزين.
چورچ جاموف يطرح تصوره المبهر
صار شكل جزئ الدي إن إيه الذي تتبع فيه القواعد النيتروجينية بعضها البعض مثلما تتبع سلاسل الصفر والواحد بعضها البعض في أبسط صور التشفير، مغريا جدا. لماذا لا تكون تلك القواعد حروف شفرة مذهلة، تحمل بيانات بناء الكائن الحي وكل صفاته. ربما يصيب البعض العجب إذا عَرِف أن أحد أوائل المتحمسين لتلك الفكر كان أحد أشهر فيزيائيي القرن العشرين، لكنه رأى أنه الأحق بحل ذلك اللغز، اعتقد أنه لغز رياضي بحت وأنه قادر عليه. إنه الفيزيائي روسي الأصل چورچ جاموف، أحد رواد البحث في سر نواة الذرة والنشاط الإشعاعي، وأحد أوائل المتحمسين لنظرية الإنفجار العظيم، كما تنبأ بإشعاع الخلفية الميكرووي، ذلك الإشعاع المنتشر في الكون كله بشكل متجانس وأحد الأدلة القوية على صحة نظرية الانفجار العظيم لنشأة الكون.
تحمس چورچ جاموف بشدة لجزئ الدي إن إيه فور أن أدرك تركيبه، وما لبث أن قفز إلى استنتاج أن الجزئ هو القالب الذي تنبني عليه البروتينات وهذه البروتينات هي معول الطبيعة الذي يشكل الجسم ويمنحه شكله وصفاته ووظائفه. يحمل جزئ الدي إن إيه معلومات البناء بلا شك ولكن كيف يعمل؟ بعث جاموف برسالة لواطسون وكريك محييا جهودهما ومهنئا كشفهما ومؤكدا على أهميته وطارحا فكرته التي نشرها بعد ذلك بالتفصيل في مجلة نيتشر.
شفرة اللؤلؤة
استخدم جاموف أسهل الحلول وربما لذلك جاءت فكرته جميلة جدا وساحرة. لدينا أربع قواعد نيتروجينية، لكن البروتينات تتكون من عشرين حمضا أمينيا. كيف تُشَفِّر أربع قواعد نيتروجينية عشرين حمضا أمينيا؟
يستحيل أن تكون الشفرة أحادية أو ثنائية. فالشفرة الأحادية، المكونة من قاعدة نيتروجينية واحدة لا تعطينا إلا ٤ احتمالات فقط (١٤)، أما الثنائية المكونة من قاعدتين نيتروجينيتن فلن تعطينا إلا ١٦ احتمالا (٢٤)، أما الشفرة الثلاثية المكونة من ثلاث قواعد نيتروجينية فتعطينا ٦٤ احتمالا (٣٤). وصل چورچ جاموف من خلال التفكير المنطقي المجرد إلى هذا التصور الوجيه الذي ثبتت صحته فيما بعد بالفعل.
نعرف حاليا أن كل ثلاث قواعد نيتروجينية متتالية تمثل شفرة لحمض أميني. تبدأ خطوات تصنيع أي بروتين بتصنيع نسخة من الحمض النووي الريبوزي الرسول mRNA وهي نسخة من الشفرة مقابلة لنسخة الدي إن إيه. وبعد ذلك في السيتوبلازم، يحمل الحمض النووي الناقل الأحماض الأمينية ويلتصق بحسب الشفرة الثلاثية بالحمض النووي الرسول بمعونة من الحمض النووي الريبوسومي (المكون الأساسي) للريبوسومات، هكذا تصطف الأحماض الأمينية وفق تتابع الشفرة ويساعد الحمض النووي الريبوسومي كذلك في ربطها معا من أجل صناعة البروتينات.
لم يكن جاموف أو أي من معاصريه على علم بهذه الآلية المعقدة. وإذا أردت أن تفهم منطقه عليك أن تتناسى لوهلة كل هذه التفاصيل التي كشف عنها العلم في زمن لاحق. لاحظ جاموف أمرا مثيرا للغاية وظن أن له دلالة تتجاوز بلا شك الصدفة البحتة. لاحظ أن المسافات بين القواعد النيتروجينية في شريط الدي إن إيه هي نفسها بين الأحماض الأمينية في البروتينات، لذا اقترح أن الأحماض الأمينية تلتصق مباشرة بشريط الدي إن إيه حسب الشفرة المكتوبة ثم يربطها معا أحد الإنزيمات ليتكون البروتين بعد أن عمل الدي إن إيه كقالب مباشر له.
منح جاموف القواعد النيتروجينية أرقاما من ١ إلى ٤. واقترح أن تلك القواعد تصنع شفرة أسماها اللؤلؤة لأنها تصطف في شكل يشبه سلسلة من اللآلئ، كما هو واضح بالشكل.
تبدو شفرة رباعية للوهلة الأولى، تتكون من أربع قواعد نيتروجينية، لكنك حين تدقق النظر تكتشف أن آخر قاعدة هي قاعدة مكملة لقاعدة أخرى في الشريط المقابل. فكما اوضحنا من قبل الدي إن إيه شريط مزدوج، يجب أن ترتبط فيه قواعد الأدينين بالثيامين وقواعد الجوانين بالسيتوزين، لذا فهذه القاعدة الأخيرة وجودها دائما إجباري ويعتمد على وجود قاعدة أخرى في الجهة المقابلة، لذا فالشفرة رباعية من حيث الشكل فقط لكنها في حقيقة الأمر شفرة ثلاثية. يجب أن يقابل الرقم ١ الرقم ٢ ويقابل الرقم ٣ الرقم٤ والعكس بالعكس. الرقم ٤ في التتابع ١ ٣ ١ (٤) وجوده إجباري لأنه يقابل الرقم ٣.
تمنحنا الشفرة الثلاثية ٦٤ احتمالا لكننا لا نحتاج إلا إلى عشرين فقط وهي عدد الأحماض الأمينية. نعرف حاليا أن بعض الأحماض الأمينية لها أكثر من كود كما أن هناك كود لتحديد مكان بدء تصنيع البروتين وأكواد لإيقاف عملية التصنيع. إلا أن جاموف وجد حلا مثيرا للغاية، ثبت خطأه بالطبع. طرح جاموف أن الكود ١ ٢ ٣ هو نفسه ٣ ٢ ١ أي أن الكود قد يُقرأ من أي إتجاه ويعطي النتيجة نفسها. وكذلك إذا كان لدينا كود مكون من قواعد معينة وكود آخر من قواعد مقابلة لتلك القواعد المعينة، فالاثنان يشفران الحمض الأميني نفسه. تختزل هذه الشروط ال٦٤ كودا إذا اعتمدنا تلك التكرارات إلى ٢٠ مفتاحا لعشرين حمضا أمينيا.
رفض سريع
على الرغم من جمال طرح جاموف ومنطقيته إلا أنه رُفِض سريعا. كان أوضح تعارض له مع العلم المتوفر وقتها أن البروتينات لا يجري تصنيعها في النواة بل في السيتوبلازم خارج النواة وبالتالي لا يمكن أن يعمل الدي إن إيه الموجود في النواة كقالب مباشر لصب البروتين.
أما سبب الرفض الثاني فقد تكشف بعد وقت قصير. لو دققنا النظر في الرسم المرفق سنجد أن كل كود يشترك بقاعدتين نيتروجينيتين مع الكود السابق له وهو ما يعني أننا مجبرون على ترتيب معين للأحماض الأمينية، فهذه الشفرة متراكبة وسرعان ما ثبت أن الطبيعة لا تلزم نفسها بهذه الشروط
للأسف لا يكفي الجمال وحده أو الاتساق الداخلي للطرح لصنع نظرية ناجحة، لهذا فشل طرح چورچ جاموف لكنه أثار حماس الجميع، إذ كشف أن السر يكمن بالتأكيد في شريط الدي إن إيه وعلينا أن نجتهد في قراءته.. لا يهم بالضرورة أن تفشل نظريتك، يكفي أن تلهم اللاحقين وتدفعهم للعمل وتلقي بصيص من الضوء على الدرب.
المصادر
https://www.britannica.com/biography/George-Gamow
https://www.nature.com/scitable/topicpage/discovery-of-dna-structure-and-function-watson-397
https://wellcomecollection.org/works/ymucsgkm
https://www.azolifesciences.com/article/The-Steps-of-Protein-Synthesis.aspx