مع ارتفاع درجات الحرارة بشكلٍ ملحوظ، والتغيرات المناخية المتطرفة التي تتسبب في خراب المحاصيل وإلى صراعات قادمة أكثر خطورة؛ تبدو الحياة البشرية اليوم كما لو أنها تنتظر حدثًا كارثيًا يمكنه أن يكون مُزلزلًا بشكلٍ غير معهود. فكيف يمكننا أن نتعامل مع كارثة بهذا الحجم اليوم؟ يقول الأديب الفرنسي مارسيل بروست: “أعتقد أن الحياة ستبدو رائعة لنا فجأة لو كان ثمة تهديد بموتنا.. فكروا فحسب بكم المشاريع، والرحلات، وعلاقات الحب، والدراسات التي تخفيها الحياة عنا، وكانت لا مرئية بفعل كسلنا الذي يُمعن في تأجيلها باستمرار بسبب ثقته الراسخة بأنه سيفعل ذلك في المستقبل.”
يعتقد بروست أننا نشعر بالكسل وفقدان المعنى والولع بتأمل النهايات الأبوكاليبسية بسبب شيء خاص في نظرتنا الذاتية للعالم، ما يجعلنا نعيش خاضعين لحكم “العادات اليومية”. فتكرارنا لنفس السلوكيات والأعمال يومًا بعد يوم؛ يتأتى فقط من نظرتنا الجامدة للزمن. نحن نعرف الزمن من خلال وحدات قياس الساعة وتعاقب حركة الأرض حول الشمس؛ أي أننا نعي الوقت “بالتزامن والتعاقب” كما يقول الفيلسوف جان بياجيه، وهو ما نتعلمه عن الزمن منذ الطفولة. لكن الزمن مفهوم أكثر تعقيدًا مما نظن. يعتقد الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر أن الزمن معروف الآنية، أي أننا يمكننا الحديث عنه والتفكير فيه والإحساس بحضوره، لكنه مجهول الهوية، أي غير معروف حقيقته على وجه الدقة. وهو في ذلك يترافق مع مفهوم الوجود، فوجودنا نفسه غير معروف الماهية. لذلك يعتقد هايدجر أن الوجود والزمن مترافقان، فلا وجود بلا زمن، ولكل وجود زمنه.
في العام 1913 قدم الأديب الفرنسي الشهير مارسيل بروست الجزء الأول من روايته “البحث عن الزمن المفقود”، وهي الرواية التي عُدَّت أطول رواية في التاريخ، وتمتد لمليون ومائتي ألف كلمة، وقضى بروست في كتابتها مدة 14 عامًا، مُستلقِيًا على سريره ومتأملًا لمجمل حياته في محاولة أخيرة لترك إرث يفيد البشر كما فعل والده الطبيب أدريان بروست بعلاجه للمرضى من قبله. لكن كيف يمكن لرواية بروست أن تعالجنا؟
التجربة الروحية في كوب الشاي
يحكي بروست في الجزء الأول من روايته عن لحظة عاد فيها إلى المنزل بعد يومٍ بارد وكئيب، ليجد أمه وهي تقدم له كوبًا من الشاي وقطعة كعك فرنسية Madeleine. رفض في البداية، ثم مع تناوله لأول قطعة مع رشفة الشاي، شَعر بروست بسعادة لم يعرفها قط. ليس فقط جمال الطعم، لكنه شعر بالامتلاء Fullness، وكأن العالم قد انتظمت حركته وغدا كل عنصر وكل قطعة فيه في مكانها المناسب. في تلك اللحظة شعر بروست كما لو أنه تحرر من نظرته الجامدة للزمن، وعملت ذاكرته على استحضار الماضي وخلطته بالحاضر، وخلال هذا الاستدعاء تعرف على نفسه في كل فترة كما لو أنه كان شخصًا مختلفًا بالكلية. فتذوق قطعة الكعك مع الشاي لم يكونا إلا مجرد تحفيز حسي لـبروست الذي تأمل صيرورته ومعنى وجوده خلال مراحل حياته. يقول بروست: “الساعة ليست مجرد ساعة، إنها على الأحرى زهرية ملأى بالروائح والأصوات والمشاريع والأجواء.”
يمر بروست بتلك التجربة خلال الرواية أكثر من مرة، سواء في استماعه لصوت مميز أو دخوله بيتًا ما، وكلها تجارب حسية حاول أن يضيئها للقراء، ويدعوهم لتجربة أشياء جديدة تكسر قوة العادات اليومية، لعلهم يجربون تلك اللحظات. لحظات الامتلاء تلك يُسميها الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس “التجربة الدينية”، وهي تجربة نفسية وحسية في المقام الأول، يشعر فيها الإنسان بلحظة استنارة روحية في مقابل مشاعر الخواء والسوداوية وفقدان المعنى. لكن ما هي الأشياء الجديدة التي يمكنها أن تملأنا روحيًا كما يريد بروست؟
التسكع بحثًا عن المعنى
يبحث بروست خلال الرواية عن المعنى. يظن الراوي في البداية أن المعنى يوجد لدى الطبقة البرجوازية الفرنسية والمجتمعات العليا من نخب المجتمع، فهؤلاء السعداء من البشر لا بد أنهم من حازوا على معنى ما. لكنه لا يلبث إلا ويشعر بالخيبة، فتلك المجتمعات لا تملك إلا الأحاديث المُزخرفة والفارغة من أي مضمون، وحياتهم عبارة عن إضاعة دائمة للوقت دون أي معنى.
وفي المرة الثانية يزور الراوي منتجع بالبك على ساحل النورماندي، ليقع في حب الفتاة الجميلة ألبرتين. يظن راوي بروست أن معنى الحياة يمكننا أن نجده في الحب، وخصوصًا كيف يمكنه أن يبدد وحدتنا ويجعلنا نتشارك أهم لحظاتنا وأكثرها غرابة. لتنتهي تجربته إلى فقدان الأمل في الحب، فلا يوجد أحد يمكنه أن يشاركنا كل شيء أو يفهمنا على حقيقتنا، أي أن الحب في النهاية غير قادر على دفع الوحدة عنا.
الفن يجيب عن كل شيء
ما أن ينتهي الراوي من البحث عن المعنى، سواء عند ألبرتين أو في المجتمعات الراقية الفرنسية، حتى يصل إلى ما يظنه بروست العنصر الذي يمكن أن يحررنا من ثِقل الزمن، ويزودنا بالمعنى والتجربة الروحية التي نبحث عنها. باختصار، إنه “الفن”.
يعتقد بروست أن الفن قادر على تزويدنا بنظرة جديدة للعالم، نظرة مرحة كنظرة الأطفال. فما أن نرى لوحة أو نقرأ في رواية عن شخصيةٍ ما، حتى يتبادر في ذهننا شخص آخر كنا نعرفه، شخص يشبه تلك الشخصية في الشكل أو في السلوكيات، بل وحتى يمكننا أن نرى أنفسنا في لحظة ما من حياتنا في زمن مفقود. يمكننا أن نتعرف على قريبٍ لنا في شخصية “زوربا” اللعوبة المرحة، أو في شخصية “إيفان إيلتش” القاسية، وهو ما يقرب بيننا وبين النماذج والشخصيات الإنسانية شديدة الاختلاف.
لا يطالبنا بروست بإنتاج أعمال فنية أو الذهاب للمتاحف أو كتابة الروايات، لكنه يطالبنا بالتمهل وتأمل الأشياء كأننا نراها لأول مرة، بحساسية الأطفال تجاه العالم، والتي لا تخضع لقوة العادات اليومية القاهرة كما البالغين. فنظرتنا بعين الفنان للطبيعة والأشياء العادية يمكنها أن تعزز شعورنا الجمالي والحسي، فتعزز تجربتنا الروحية للدرجة التي تمنحنا فيها قطعة الماندلين مع كوب الشاي تجربة استثنائية لم نخبرها قط.