الرابعة صباحًا
٣٤٢٨ كلمة
٠ تعليق

في 31 ديسمبر عام 1961، جلس ديمتري شوستاكوفيتش في القاعة الكبرى لمعهد موسكو الموسيقي، في أحد الصفوف الأمامية بالمسرح. وأمامه أوركسترا موسكو الفيلهارمونية مع قائدها كيريل كوندراشين، وهو يعطي التعليمات من على المنصة، في أثناء إجراء البروفة النهائية على السيمفونية الرابعة لشوستاكوفيتش، والتي ستعزف في عرضها العالمي الأول في ليلة رأس السنة الجديدة من خلال أوركسترا من 125 عازفا، أكبر ترتيب أوركسترالي استخدمه شوستاكوفيتش على الإطلاق في سيمفونية، بما في ذلك السيمفونية العملاقة رقم 7 التي ألفها تكريمًا لمدينته لينينجراد التي حوصرت خلال الحرب العالمية الثانية من قبل الجيش النازي.

كان عمر شوستاكوفيتش وقت إجراء البروفة النهائية للسيمفونية الرابعة 55 عاما، لم يعد ذلك الشاب الأخرق ذي المظهر الساذج والجسد النحيل، والذي قد يتصرف باندفاع يصل إلى درجة الحماقة، كما عرفه الجمهور ذات يوم عندما ألف سيمفونيته الأولى وهو ابن 19 عاما، والتي نجحت للدرجة التي جعلتها تعزف في قاعات الحفلات الموسيقية في جميع أنحاء العالم، صار أكثر نضجا وووجه أكثر امتلاء واستدارة، شعره البني الداكن المشذب بشكل متقن، صار أخف، لكن أشياء أخرى لم تتغير، فشعوره بالضغوط السياسية التي فرضت عليه طوال مسيرته الفنية ما زالت تطارده، وتدفعه إلى التحدث والتصرف بسلوكيات متناقضة تكشف عن وعي ذاتي مؤلم، نفس الحركات المتوترة والعصبية، يده دائما ما تغطي فمه، يقرض أظافره ويعض أصابعه، يدخن بشراهة، خجولا وغير مرتاح إذا كان حوله أناس لا يعرفهم، جسمه متخشب، وعيناه زائغة بعصبية في كل اتجاه.

رجل لم يعرف طيلة حياته سوى الخوف والقلق وعدم اليقين، لكن ما أن يبدأ ذلك الرجل في التأليف الموسيقى للتعبير عن مشاعره أو عن الواقع الروسي كما رآه فعلا، وليس كما فرض عليه، حتى يتحول إلى شخص آخر، شخص عملاق، تلمع عيناه الزرقاوان خلف نظارته في قوة وتركيز، تلك هي لحظات الثقة الوحيدة في حياته.

في عام 1961 كان شوستاكوفيتش قد اشتهر في جميع أنحاء العالم بسيمفونياته وحفلاته الموسيقية، وأوبراه، والباليه، وموسيقى الحجرة، وموسيقى الأفلام، ورسخت سمعته كواحد من أعظم المؤلفين الموسيقيين في الاتحاد السوفيتي، لكن تلك الشهرة لم تكن فقط بسبب موسيقاه، بل بسبب قصته الفريدة مع أكبر طاغية عرفه العصر الحديث: جوزيف ستالين.

وبسبب ستالين، ظلت السيمفونية الرابعة التي ألفها شوستاكوفيتش في نهاية عام 1936، ممنوعة من الحرب لأكثر من ربع قرن، وظلت محذوفة من كتالوجات أعماله، فعرضها في العلن، كان سيكلفه حياته، حرفيا لا مجازا، ففي الوقت الذي انتهى فيه من تأليفها، لم يكن وقتا عاديا، بل عهد سمي بعهد الإرهاب.

**

عندما قامت الثورة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين عام 1917، وأسقطت القيصر الروسي، كان ديمتري شوستاكوفيتش عمره 11 عاما، طالب في السنة الأولى في معهد كونسرفاتوار بطرسبرج، أول معهد روسي لتعليم الموسيقى ينشأ على غرار معاهد الكونسرفاتوار في أوروبا عام 1862، وكان من أوائل خريجيه، الموسيقار الروسي بيوتر تشايكوفسكي، والمعلمين أسماء بثقل ريمسكي كورساكوف.

الثورة البلشفية لم تكن ضد القيصر فقط، بل ضد كل ما مثله العهد البائد، وعلى رأسهم الثقافة والفنون والموسيقى، لذا كان من الضروري إدارة الوجه عن أعمال هامات عالية في الموسيقى تشايكوفسكي أو كورساكوف، أو غيرهم من الموسيقيين اللذين لم يؤيدوا الثورة، أو ماتوا قبل حدوثها.

ورغم صعوبة تصديق هذا، إلا أن الفنانين السوفييت، حظوا بقدر كبير من الحرية في السنوات الأولى التي تلت الثورة البلشفية، سمحت لهم بإنتاج واحد من أعظم وأهم الإبداعات التي تتسم بالتجريب والابتكار على مستوى العلم في تلك الفترة، التي أرادت فيها الثورة البلشفية من الفنانين المساهمة في هدم فنون العهد القديم، لصالح إنتاج فن جديد يمثل الدولة الجديدة وطموحها، فكان يسمح للطليعة المثقفة بشيء من المعارضة.

في أجواء كتلك تتسم بالحرية النسبية، ألف شوستاكوفيتش وهو في سن 19 عاما، سيمفونيته الأولى التي بمجرد عرضها في حفل موسيقي في مدينته لينينجراد، أو بطرسبرج سابقا، قبل أن تسمى باسم لينين، ستكون حدثا موسيقيا يزلزل الاتحاد السوفيتي، ويجعل من اسمه شهيرا في المدن الأوروبية حيث ستعزف السيمفونية، مما يسترعي انتباه قادة الاتحاد السوفيتي، سيكون فرصتهم لمباهاة العالم بعد هروب كثير من الموسيقيين الروس العظماء لأوروبا، مثل سترافينسكي وبروكوفييف، وجاء في أحد التعليقات الصادرة من إذاعة موسكو، أن رحيل هؤلاء لم يهز النظام السوفيتي، فلديهم الآن خليفة لا يقل عنهم عظمة، الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش.

حمل ثقيل فوق كتفي شاب لم يتخط العشرين عاما، لكنه سيدفعه لمزيد من الإبداع خلال السنوات الخمس التالية، وبنفس روح التجريب والابتكار، سيؤلف السيمفونية الثانية والثالثة وباليه “العصر الذهبي” وأوبرا ” الأنف” المأخوذة عن قصة الأديب الروسي جوجول، والتي يمزج فيها بين الأداء المسرحي الدرامي والألوان الموسيقية الفلكلورية والأغاني الشعبية.

لكن مناخ الحرية النسبي الذي سمح به الاتحاد السوفيتي للفنانين والأدباء والموسيقيين بعد الثورة البلشفية، لن يستمر طويلا، وسينتهي تماما بعد انفراد جوزيف ستالين بالحكم سنة 1928، والذي كان يرغب في موسيقى تمجد النهضة الموسيقية وتمجده شخصيا، وتكون في خدمة خططه ودعايته، موسيقى دون تراجيديا أو مآسي، تعبر عن الفرح والحماسة، وتكون مفهومة للمواطن السوفيتي العادي.

في عام 1934، وبنفس روح التجريب والابتكار، سيؤلف شوستاكوفيتش أوبرا “ليدي مكبث من ناحية ميتسينسك” والتي ستعرض بنجاح ساحق لمدة عامين، في موسكو ولينينجراد ومسارح أوروبا وأمريكا، وستلقى ترحيبا من الجمهور والنقاد، كتأكيد لعبقرية شوستاكوفيتش، إلى الدرجة التي ستلفت نظر الكرملين وأعضاء الحكومة.

في ليلة 26 يناير 1936، الليلة التي لن تكون حياته قبلها كحياته بعدها، وستشكلها إلى اليوم الأخير في عمره، سيحضر العرض شخصا استثنائيا، جوزيف ستالين. أعين الجمهور وأعضاء الحكومة لن تكون مركزة على العرض، بل ستتعلق بالمقصورة التي يجلس فيها.

كانت أوبرا “ليدي مكبث من ناحية ميتسينسك”، تحكي عن امرأة شابة تدعى كاترينا، تقتل زوجها هربا من زواج بدون حب. تبرأها موسيقى شوستاكوفيتش، وتلتمس لها الأعذار. صورة هي العكس تماما من الصورة النقية للمرأة السوفيتية كما أرادها الحزب الشيوعي.

في منتصف العرض، نهض ستالين وغادر المسرح غاضبا، ليعرف الحاضرون أن العرض قد ألغي.

أثر تلك الليلة سيتجاوز حدود شوستاكوفيتش وأوبرا الليدي مكبث، إلى الموسيقا السوفيتية برمتها.

**

بعد يومين من مغادرة ستالين للمسرح غاضبا، وبتوقيع مجهول سينشر مقال افتتاحي في “البرافدا” الجريدة الرسمية للحزب الشيوعي، بعنوان ” فوضى عوضا عن الموسيقى”، أشهر مقال موسيقي في تاريخ الموسيقى الأكاديمية على الإطلاق، مقال ينتقد أوبرا الليدي مكبث بقسوة ويصفها بالأوبرا التي ” تصدم المستمع ببشاعتها، مجرد طوفان غير مفهوم من الأصوات المشوشة، خشنة، بدائية، مبتذلة، غير مفهومة للجماهير، وشكلانية” مع تحذير واضح في نهاية المقال: إذا لم يرجع شوستاكوفيتش عن هذا النوع من الموسيقى قد تكون العواقب سيئة.

**

الشكلانية أو الفورماليزم هي في أبسط تعريفاتها: الفن للفن، أو أن يعطي الفنان أهمية للشكل والأسلوب الجمالي على حساب المضمون، أو أن يكون تعبيره الفني والجمالي أهم عنده من التعبير عن الأيدلوجيا السياسية، بينما المطلوب في عهد ستالين موسيقى اشتراكية، تعبر عن نهضة السوفييت، بينما موسيقى شوستاكوفيتش، كانت مازالت تحتفظ بروح التجريب واللعب، والتعامل مع الموسيقى بأفكار “البرجوازيين في الغرب، ليس بوصفها ألحان وغناء يسهل تذكرها وترديدها، بل كموسيقى صافية.

في أوبرا الليدي مكبث من ناحية ميتسينسك “استخدم شوستاكوفيتش تركيبات أوركسترالية غريبة على الأذن من أصوات الآلات المختلفة، بشكل لا يتفق مع أفكار الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين عن الفن، والتي كان أول من نظر لها هو الكاتب الروسي مكسيم جوركي، والذي وضع أول مبادئ توجيهية للفن المطلوب في مؤتمر الكتاب السوفييت عام 1934، وهي أن على الفن أن يهتم فقط بالبروليتاريا وطبقة العمال ونضالهم، وأن يكون مفهوما بالنسبة لهم، وأن يصور المواقف النموذجية أو المثالية لحياتهم، وأن يكون مرتبطا بما يسمى ” البروباجندا” أو نشر الأيدولوجية الاشتراكية. أو ما يسمى اختصارا بالواقعية الاشتراكية.

فكرة وجدت دعما كاملا من ستالين، وشقت طريقها من الأدب إلى الدراما والسينما والإذاعة والرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي، لكن ظل من الصعب تطبيقها على الموسيقى، حتى مقال البرافدا الذي وجه نقده القاسي لموسيقى شوستاكوفيتش.

لم يكن الاهتمام بالشكلانية أو بكون الفن المقدم هو فن “برجوازي وحقير” بسبب الاهتمام بجمال القطعة الفنية على حساب الأيدولوجيا، مجرد اتهامين عابرين، بل من شأنهما أن يقضيا على مستقبل المتهم أو حياته، رغم كونهما اتهامين فضفاضين يمكن تطبيقه على أي نوع من الفن.

في تلك الفترة التي عرفت باسم عهد الإرهاب، كانت هناك عمليات تطهير كبيرة لكل من يحمل من وجهة نظر ستالين ونظامه شبهة معارضة، وتعرض عدد كبير من الفنانين السوفييت، اللذين اختلفوا مع تصورات الحكومة، أو اشتبه النظام في توجهاتهم، أو أنتجوا فنا “شكلانيا” أو ” برجوازيا” إلى الاعتقال والسجن والإعدام.

**

دون قرار رسمي أو مكتوب، منعت أوبرا الليدي مكبث من العرض، فقد كان مقال البرافدا موقعا باسم مجهول، وهو ما يعني أنه كان يعبر عن رأي الحزب، أي حكم نهائي غير قابل للاستئناف.

كل من مجدوا في الأوبرا، هاجموها بضراوة، متعللين الأمر بأنهم كانوا مخدوعين، لولا أن مقال البرافدا قد أنار بصيرتهم.

أنكر الجميع صلته بشوستاكوفيتش، وبدأت حملة تشهير عنيفة، لقب فيها بعدو الشعب، ولم يكن اسمه يذكر في الصحافة إلا كمثال على الموسيقى الشكلانية السيئة، وكانت تلك الصحف تعلن عن موعد حفلة تعرض فيها موسيقاه كالتالي “تقام اليوم حفلة لعدو الشعب شوستاكوفيتش”.

تشهير سيمتد إلى مناهج التعليم في المدارس والمعاهد الموسيقية، حيث ستدرس موسيقاه كنموذج للموسيقى المخجلة التي لا يجب التأليف مثلها، ولعقود سيدرس معها مقال “فوضى عوضا عن الموسيقى”

كان من الطبيعي أن توقف تلقائيا كل أوبرا أو باليه ألفها شوستاكوفيتش من العرض، وفي التوقيت الذي منعت فيه أوبرا الليدي مكبث عام 1936، كان شوستاكوفيتش، كان انتهى من تأليف سيمفونيته الرابعة، لكنه أوقفها عن العرض قبل انتهاء أوركسترا لينينجراد من التدرب على بروفتها النهائية، رغم الجهد الذي بذله لتأليفها، والذي استغرق 4 أعوام من عمره، لكنه قرر عدم عرضها، فلو كانت أوبرا ليدي مكبث تعد شكلانية لما فيها من تجريب، فهي لا تقارن بحجم التجريب والابتكار في سيمفونيته الرابعة، فعرضها على نحو علني كان سيضاعف من سوء موقفه.

**

بسبب تلك الليلة التي حضر فيها ستالين عرض أوبرا ليدي مكبث، عاش شوستاكوفيتش لسنوات طويلة في قلق ويقين أن اعتقاله مسألة وقت، فكل يوم كان شخصا من عائلته، أو من دوائره المقربة يختفي بالسجن أو النفي أو الإعدام، في عام 1937، اعتقل زوج أخته، ثم أحد أعمامه، ثم نفت أخته ماريا إلى سيبريا، وكذلك كثير من أصدقائه الفنانين، كالمخرج المسرحي ميروهولد، وعالم الموسيقي نيكولاي زيلاييف اللذين تعرضا للاعتقال والتعذيب، وقت لم يكن فيه سوى نوعين من الفنانين: أحياء مرعوبين أو موتى.

عقب مقال البرافدا، كان شوستاكوفيتش يظل مستيقظا طيلة الليلة وحقيبته جاهزة بجانبه، فالأسطورة المتداولة حينها أن من يقبض عليه في الليل وهو نائم في سريره سيكون أتعس حظا من الذي وجده زوار الليل جاهزا ومستعدا للاعتقال.

وفي 7 فبراير عام 1937، جاء لشوستاكوفيتش استدعاء من البيت الكبير، أو جهاز المخابرات السوفيتية الكي جي بي، ليسأله المحقق عن علاقته براعيه الفني، الجنرال والقائد العسكري الشهير المارشال توخاتيشيفسكي، والذي كان يمثل الأمل الأخير لشوستاكوفيتش لحمايته من غضب السلطة، وها هو يقبض عليه بتهمة التجسس لصالح ألمانيا، ويسأله المحقق مباشرة إن كان قد عرف أي معلومات عن المؤامرة التي دبرها الجنرال.

ما أن يسمع شوستاكوفيتش تلك الكلمات حتى يدرك أنها النهاية، وأن دوره قد حان كي يدخل الدائرة الجهنمية التي لا ترحم أحدا.

يطلب منه المحقق أن يذهب إلى منزله، وأن يعود بعد يومين، بالفعل يذهب شوستاكوفيتش ليودع زوجته وطفليه، وهو يعرف أنها قد تكون المرة الأخيرة التي يراهم فيها، ثم يحضر في الموعد المتفق عليه مع المحقق في مبنى الكي جي بي، ليجد أن اسمه غير مدون في قائمة الزيارات، يخبرهم باسم المحقق الذي طلب حضوره، فيخبرونه أنه لن يتمكن من مقابلته، وأن يعود أدراجه، ليعرف بعدها أن المحقق قبض عليه بتهمة الخيانة قبل يوم واحد من الموعد المتفق عليه، وسيعدم لاحقا.

**

السيمفونية الرابعة بحسب عالمة الموسيقى ماريانا سابينينا، كانت تعبر موسيقيا عن عصر الإرهاب وروح القمع، عن طريق التضخيم والمبالغة في عرض القوة القاهرة، تراجيديا مأساوية تقدم في جو كاريكاتيري كان من الصعب أن يغفل عنها ستالين، الذي كان يعلن في خطبه أن الحياة في الاتحاد السوفيتي صارت أفضل، وأن المواطنين السوفييت يحيون في سعادة، لذا ففي إصرار شوستاكوفيتش على تقديم تيمات مأساوية في موسيقاه يشير إلى شيء خاطئ، تلك الموسيقا تسخر من النهضة السوفيتية.

في وقت عرفت فيه الاتحاد السوفييتي، معسكرات الجولاج أو السخرة والتي ضمت مئات الآلاف من المعتقلين، لم يجد شوستاكوفيتش حلا لإنقاذ نفسه سوى أن يؤلف سيمفونية خامسة، أسماها “رد فنان سوفيتي على انتقادات الحزب العادلة” موسيقى ستكون مفهومة وسائغة ويسهل ترديدها، ستمنح ستالين كل ما أراد سماعه، مارشات عسكرية وموسيقى جدية وشاعرية وخاتمة مبهجة تحتفل بالانتصار، موسيقى حماسية، ربما أكثر مما ينبغي، يكرر فيها شوستاكوفيتش النوتات كالمهووس.

قائد الأوركسترا السوفيتية الشهير Ilya Musin، يرى أن السيمفونية الخامسة في الظاهر تقول “لقد أصبحت رجل النظام السوفيتي”، لكن في الحقيقة أنها تعبير فني عن معاناته وشعوره بالاضطهاد، وعن سؤال أشبه بسؤال هاملت: أكون أو لا أكون. هل أكون الفنان الذي يعبر عن مشاعره ورؤيته بالموسيقى أم الفنان الذي يزيف الواقع خوفا من السلطة.

في الحركة الختامية لسيمفونية التي عبرت عن ذات شوستاكوفيتش المعذب تحت آلة القهر الستاليني، يأتي مارش حاسم يكتسح في طريقه كل الأفكار عن التعبير عن القضايا الفردية في مقابل القضية الكبرى، بناء الإنسان الشيوعي والدولة الشيوعية.

لذا وجد الاتحاد السوفيتي ضالته في تلك السيمفونية، التي صارت نموذجا للموسيقى التي يبحث عنها، موسيقى ترى الإنسان مجرد ترس في آلة عملاقة اسمها الوطن الاشتراكي.

عندما عزفت السيمفونية الخامسة للمرة الأولى، كان تأثيرها مدهشا، الجمهور وقف بعد انتهائها ليصفق متأثرا لأكثر من نصف ساعة، وقد وصلته طاقة البهجة والسعادة فيها، كأنهم فعلا سمعوا الموسيقى التي احتاجوا إلى سماعها في وقت يعيشون فيه أوقاتا صعبة، موسيقى قادرة على تخفيف الألم الذي يعيشونه في حياتهم اليومية، في زمن سمي بعهد الإرهاب.

البعض قد يكون وصله المعنى: موسيقى ألفت تحت التهديد، تصرخ كاذبة: كل شيء جميل، كل شيء على ما يرام، والجميع سعداء ولو بالأمر.

سيمفونية كانت فارقة في مصير شوستاكوفيتش نفسه، فكل هذا الاحتفاء الجماهيري وحتى آراء النقاد لا قيمة لها، ما كان مهما هو رأي شخص واحد فقط، ستالين إجابته بالرضا أو النفور، يكمن فيها الفارق بين أن يعيش أو يموت، لكن جاء الرأي الرسمي أن شوستاكوفيتش في النهاية تمكن من رؤية النور.

من بين موسيقيين وفنانين اختفوا بالنفي أو الاعتقال أو الموت، كان حظ شوستاكوفيتش جيدا من ناحية أن ستالين وضعه في خانة من يمكن إعادة تأهيله، فقد التمس فيه العبقرية التي بإمكانها خدمة الدولة السوفيتية وخططها وتمجيده كزعيم أوحد يقترب من مكانة الإله، لكنه أيضا حظ سيئ من ناحية أخرى أن ستالين قرر أن تكون نوع اللعبة التي سيلعبها معه مختلفة، تتركه نصف حر ونصف سجين، نصف حي ونصف ميت، لعبة هدفها كسره وقمع روح المبدع بداخله.

**

لم تكن صدفة أن ينجذب شوستاكوفيتش للتيمات المأساوية، رغم أن مزاجه في شبابه لم يكن سوداويا كمزاجه في سنواته الأخيرة، فقد كان مليئا بالحيوية وحب الحياة، وقادر على تقديم موسيقى عذبة ومبهجة، كموسيقاه التصويرية لفيلم الخطة المضادة سنة 1932، لكن قسوة الظروف التي مر بها جيله في ذلك الوقت والتحولات العنيفة تركته بصمتها به، وليس فقط بسبب الوضع في الاتحاد السوفيتي، لكن الإشارات كلها تقول إن العالم مقبل على صراع ستكون نتيجته مأساوية ومظلمة، مع صعود النازية والتهديد بحدوث حرب عالمية ثانية، ستخلف دمارا سيذهب ضحيته الملايين، الشيء الذي سيتمكن شوستاكوفيتش أن يراه في الأفق ببصيرته الفنية، عالم شديد القسوة يهدد أن يفني الجنس البشري كله.

ما تنبأ به في موسيقاه لم يكن بعيدا، فالقوات النازية اجتاحت الاتحاد السوفيتي، قد حاصرت مدينته ليننجراد، حصارا قاسيا عانى فيه الناس من الجوع والعطش إلى الدرجة التي جعلتهم يأكلون خشب المقاعد والطاولات وجلد الحقائب، وعندما اختفت الكلاب والقطط من المدينة، كان من الطبيعي أن يأكل البعض أجزاء من الجثث الملقاة في كل مكان لأناس فقدوا حياتهم من الجوع.

ورغم أن شوستاكوفيتش كان من اللذين استطاعوا الخروج من المدينة قبل الحصار، رغم رفضه في البداية، إلا أنه عاد، وقبل بالخروج لإنقاذ أسرته، إلا أنه ألف سيمفونيته السابعة، المعروفة باسم لينينجراد.

لتخليد معاناة أهل مدينته، الموسيقى التي بمجرد وصولوها لأوركسترا لينينجراد، وأعضائها المحاصرين، تصمم الأوركسترا على عزفها في القاعة الكبرى بمن تبقى حيا منهم، وكذلك يصمم أهل المدينة على حضور العرض وسط الحصار ودوي الرصاص والمدافع والقنابل.

موسيقى شوستاكوفيتش استطاعت حسب شهادات عازفي الأوركسترا ومن حضروا العرض، أن تكون مصدر إلهام وقوة لهم، بتعبيرها عن جوهر الروح والإرادة الروسية التي قدر لها الانتصار، موسيقى قادرة على أن يشعروا معها بشبع حقيقي ينسيهم، ولو مؤقتا شبح الجوع والحصار.

السيمفونية السابعة التي تصل موسيقاها لملايين المواطنين في الاتحاد السوفيتي، لتتحول إلى رمز للمقاومة والأمل، أن لا شيء قادر على إيقاف روسيا، وأن الغزو والدمار غير قادر على تحطيم الروح الروسية ولا ثقافتها المتمثل في موسيقاها، وربما على المستوى الشخصي كان بحاجة إلى إخبار نفسه أن لا شيء قادر على تحطيم روحه.

شوستاكوفيتش لم يكن ضد الشيوعية كمبدأ، فقد تفتح وعيه على الثورة البلشفية ومبادئها، وألف في بداياته موسيقى تمجد عن محبة في لينين، ولم يكن يرى أن الغرب يحمل قيما أفضل، وربما كان هذا هو السبب الذي لم يجعله يهرب خارج الاتحاد السوفيتي كغيره من الفنانين السوفييت في تلك الفترة، رغم ما حظي به من سمعة عالمية كبيرة.

لكن إن كانت موسيقى السيمفونية السابعة كانت ضد الفاشية النازية، فقد كانت أيضا في باطنها ضد شمولية ستالين المرعبة التي تقهر الروح الإنسانية، فلو كان هتلر قد دمر لينينجراد، فكل ما فعله أنه حسب وصف شوستاكوفيتش قد أنهى المهمة التي بدأها ستالين عندما خرب روح المدينة.

بعد تأليفه السيمفونية السابعة، يحصل شوستاكوفيتش على جائزة ستالين من الدرجة الأولى، ويتحول إلى بطل قومي، لكن إلى حين.

**

عندما انتهى حصار لينينجراد، عام 1943، بانتصار السوفييت، يؤلف شوستاكوفيتش سيمفونيته الثامنة، ويظهر أن ألحانه تغرق أكثر وأكثر من عمل إلى آخر في التوتر والتراجيديا، فروحه الفنية ما زالت تحت الحصار، ممنوعة من التعبير عن نفسها بطريقتها التي ارتأتها في السيمفونية الرابعة التي ظلت محذوفة لربع قرن من كتالوجات أعماله، ورأى البعض في السيمفونية الثامنة، تعبيرا عن ضحايا هتلر وستالين، وأنها مشحونة بمعنى الكارثة التي عرفتها البشرية في القرن العشرين، يسائل فيها تلك القدرة على الإغراق في الوحشية.

لكن إذا كان قد سمح له في سيمفونيته السابعة التي خلدت حصار لينينجراد بتأليف لحن تراجيدي، فلماذا يفعل ذلك الآن بعد انتصار السوفييت، والبلاد كلها تعيش حالة من النشوة، وتجوبها الاستعراضات والمواكب، لماذا موسيقى السيمفونية الثامنة حافلة بالشك والحزن، في حين أن عليها أن تكون احتفالية بالنصر.

أصابع الاتهام تأكدت بعد سيمفونيته التاسعة التي ألفها بعد انتهاء الحرب، فقد توقع ستالين سيمفونية هي الأعظم على الإطلاق، سيمفونية تخلد نصره وعظمته، لكنها أتت – من وجهة نظر ستالين- أقل من السيمفونية التي مجدت مدينة على اسم لينين، ففرحة شوستاكوفيتش بالانتصار على الفاشية، كانت ممزوجة بالشعور بالمرارة، بحسب شهادة سكرتيره، فانتصار ستالين، سيجعل طغيانه أقوى وأعنف، بل إن بعض المحللين الموسيقيين، رأوا في استخدامه لبعض النغمات الشعبية شيئا أخف من أن يليق بالتمجيد المطلوب، كأنها تحمل سخرية مكتومة.

لذا، في عام 1948، في المؤتمر الوطني للملحنين الموسيقيين، سيعلن قرار يتهم شوستاكوفيتش وغيره من الأسماء البارزة من الموسيقيين كشبلين ومايكوفسكي وبوبوف بتهمة الشكلانية Formalism

وأن موسيقاهم “ضد الشعب”، وهي تهمة تعني حرفيا كونهم أعداء لذلك الشعب.

تمنع موسيقى شوستاكوفيتش من جديد، ويفصل من عمله بالكونسرفاتوار، لكن هذا ليس كافيا، سيكون عليه أن يذهب إلى موسكو ليعترف علنا في مؤتمر بجرائمه الموسيقية، يقرأها من خلال ورقة كتبت سلفا من قبل وزارة الثقافة، أن موسيقاه كانت ضد الشعب.

بعد المؤتمر، ألف شوستاكوفيتش أوبرا قصيرة ساخرة، معروفة باسم “رايوك المناهض للشكلانية” لكنها بالطبع لم تر النور إلا بعد موت ستالين، وكانت تعزف في السر للأصدقاء والمقربين، فقد كانت قطعة ساخرة وهزلية تصورا مؤتمرا متخيلا، يحضره ستالين وأهم ممثلي الفنون في الاتحاد السوفييتي، وهم يسمعون الألحان الفلكلورية والشعبية كالكالينكا والسوليكو، وهي الألحان التي أحبها ستالين، وهم يهتفون تلك هي الموسيقى الأصيلة.

**

في عام 1949، يمعن ستالين في إذلال شوستاكوفيتش بإجباره على حضور مؤتمر ثقافي في نيويورك، ويجبره على قراءة كلمة ينتقد فيها الموسيقا في الغرب، ويهاجم فيها موسيقى نظيره الموسيقار الروسي سترافينسكي والذي هرب خارج روسيا، وفي حضوره.

عندما قرأ شوستاكوفيتش كلمته بصوت مرتجف، أدرك الحاضرون في المؤتمر، أنه مجبر على قراءة كلمات كتبت له.

تجربة شديدة الإذلال، لأنه اضطر أن يظهر فيها كبوق لنظام ستالين أمام أهم شخصيات العصر اللذين كانوا يحضرون المؤتمر، المظاهرات المعادية للاتحاد السوفيتي والتي أبدت تعاطفها معه، على عكس موقفها من باقي أعضاء الوفد لمعرفتها بوضعه والحظر المفروض على موسيقاه، لم تنجده ربما من الشعور بالمهانة.

وفي عام 1953، ينتهي شوستاكوفيتش من تأليف سيمفونيته العاشرة، التي تعتبر اليوم من أهم أعماله، لكن تلك المرة لا أثر فيها للسخرية أو المقاومة، بل حزن خالص، مليئة برائحة الموت البطيء، صوت الكمنجات في منتصف الحركة الثانية، بدت كصوت عويل الملايين من المسحوقين تحت وطأة الآلات النحاسية والطبول العسكرية.

في العام نفسه، يموت ستالين، وبعد ثلاث سنوات يعقد خروتشوف الزعيم السوفيتي الجديد، مؤتمرا يستعرض فيه جرائم ستالين، ويعلن نية الكرملين على إنهاء عهد الإرهاب وعصر عبادة ستالين واجتثاث إرثه الدموي.

وفي مطلع عام 1962، تعرف السيمفونية الرابعة لشوستاكوفيتش في واحدة من أكبر قاعات الموسيقى وبأضخم أوركسترا ممكنة كنوع من رد الاعتبار لموسيقار عظيم، الذي يواصل التأليف بحرية أكبر، لكن ليس بجودة أفضل، فأيام موهبته القوية والطاغية صارت ورائه، وربما لو لم تكن موسيقاه قد واجهت القمع لوصلت لآفاق أبعد كواحد من نوابغ الموسيقيين الروس وفي العالم.

إرث ستالين سيختفي، لكن إرث شوستاكوفيتش الفني سيعيش ويخلد، وموسيقاه تعزف إلى اليوم شاهدة على سنين الإرهاب والقمع وقدرة الفن والفنان على المقاومة.مصادر

The War Symphonies: Shostakovich Against Stalin (1997) ⭐ 7.5 | Documentary, Biography, Music

Shostakovich’s Symphony № 4: The Intention to Disturb Us – THE DECADENT REVIEW

Shostakovich: 15 Quartets: Analysis & Commentary – Mara Marietta

Shostakovich’s Symphony No. 5: Keeping Score | PBS

Seeking Shostakovich: Revisiting the Fourth Symphony

Shostakovich: Symphony No. 4 in C minor, Op. 43 — Michael Lewanski, conductor

“سيمفونية لينينغراد” شوستاكوفيتش… الموسيقى وسط الحصار القاتل

مذكرات الموسيقي الروسي ديمتري شوستاكوفيتش في امبراطورية الرعب – ليلى عبد الله – أنطولوجي

شوستاكوفيتش وستالين: عن الموسيقى في ظل القمع

شوستاكوفيتش يسدد صفعة للسلطات السوفياتية بعد أن دفنته بتعظيم مبهر

ما بين الطاغية والفنان: من عذابات الإبداع في مواسم القهر الشمولي

عندما يقهر مثقّفون المثقّفين

شارك هذا الـمقال