⁠العاشرة مساءً
٢٥٨٤ كلمة
٠ تعليق

نحمل معنا ملامح آبائنا وأجدادنا التي صاغتها بيئتهم، وبالمثل تحمل ابتكاراتنا وتقنياتنا ملامح أسلافها وبصمات بيئاتهم، وربما توارثت بعض العناصر التي كانت ضرورية قبل بضعة قرون ولم يعد لها حاجة الآن لكننا ألفناها وآثرنا أن نحمّلها للأجيال التالية، ويظهر ذلك في مختلف إنتاجاتنا من أول الملابس وحتى الأجهزة الحديثة، وبشكل خاص، في اللغة.

تتغير جميع اللغات تغيّرًا مستمرًا لا يستطيع أحد كبحه، وتكون تلك التغيرات تغيرات طفيفة أول الأمر من قبيل اختلاف بسيط في نطق بعض الأصوات (تحولت الظ إلى ض والذ إلى د والث إلى ت في الألفاظ الشائعة في العامية مثل ظَهر وذُرة وثاني، لكنهم تحولوا إلى أصوات شبيهة لكنها مخففة في الألفاظ المتخصصة والأقل شيوعًا مثل محظوظ وذَرَّة وثانية)، أو إسقاط بعض القواعد النحوية (فقدت العامية صيغة المثنى) لتظهر بعدها تراكيب لغوية جديدة تفرق ما التبس إثر ذلك، أو استعارة ألفاظ من لغات أخرى أو تغيّر دلالات كلمة أو اثنتين من اللغة نفسها. ومع مرور القرون تتراكم التغيرات فتظهر اللهجات المختلفة من اللغة الواحدة ثم تظهر اللغات المختلفة التي تنتمي لعائلة لغوية واحدة، ويتكرر الأمر لتصبح كل لغة جديدة فرعًا تنبثق منه لغات جديدة، فمثلًا تنتمي اللغة العربية إلى عائلة اللغات الساميّة التي تشمل الآرامية والسريانية والعبرية، وتمثل اللغات السامية فرعًا من عائلة اللغات الأفروآسيوية التي تضم فروعًا أخرى مثل المصرية والأمازيغية، وفي كثير من الأحيان تعطينا دراسة تطور اللغة من أسلافها تفسيرًا لكثير من الحالات الشاذة التي تخالف سائر قواعد اللغة.

فعلى سبيل المثال، حين يبدأ المرء بتعلم اللغة الإنجليزية ويتطلع على مسميات أجزاء الجسم، سيجد أن كلمة قدم تعنى foot، وأن جمعها -على عكس القاعدة- هو feet. وترجع هذه الصيغة الشاذة إلى أن الإنجليزية القديمة كانت تضيف في بعض الحالات النحوية لاحقة بها صوت الee، ويكثر في نطق البشر أن يبدلوا الأصوات ببعضها كي تصير مخارجها أو نطقها أقرب لبعض، كما ننطق في العامية كلمة “جنب” بالميم عوضًا عن النون حيث أننا نطبق شفاهنا لننطق الباء فصرنا نطبقها في الحرف السابق أيضًا فأصبحت النون ميمًا، وهذا ما حدث في الإنجليزية حيث تحول النطق من الo إلى الee ليلائم ما أضيف في نهاية الكلمة.

يُمكن تتبع بعض التغيرات المشابهة في حالة أنظمة الكتابة، إلى أنه ينبغي التشديد على أنه في كثير من الحالات كانت رحلة الكتابة مختلفة اختلافًا جوهريًا عن رحلة اللغة التي تستخدمها، فعدا عن استثناءات قليلة، مثلما حين سأم إمبراطور كوري في القرن الخامس عشر من استخدام آلاف الرموز الصينية لكتابة الكورية فابتكر بنفسه نظام كتابة جديد مصمَّم ليلائم اللغة الكورية، فإن غالبية أنظمة الكتابة الأكثر شيوعًا (عدا الصينية) نشأت عبر استعارة نظام كتابة وُضِع لكتابة لغة مختلفة تمامًا ثم تطويره وتحويره ليلائم اللغة الجديدة، ومن أحدث الأمثلة على ذلك اللغة التركية التي استبدلت في القرن الماضي الحروف العربية باللاتينية وحورت بعضها بإضافة علامات على عدد من الحروف.

عند النظر إلى أنظمة الكتابة التي يزيد عدد مستخدميها اليوم عن 50 مليونًا، سنجد أن جميعها -باستثناء الكتابة الكورية، والكتابة الصينية وما انحدر منها مثل الكتابة اليابانية- تنحدر من الكتابة الهيروغليفية المصرية. كانت الكتابة المصرية نظامًا شديد التعقيد تحمل فيه الرموز دلالة صوتيّة في بعض الأحيان، وربما دل رمز واحد على تتابع شائع من عدة أصوات مثل المقطع “نفر” F35، ودلالة معنوية في بعض الأحيان مثل التعبير عن طائر أو حيوان عبر رسمه بعينه. ثم أخذت شعوب تتحدث لغات ساميّة كانت تعيش في سيناء عددا من هذه الرموز واستخدمتها للتعبير عن الأصوات حصرًا، ومن ثم ظهر أول نظام كتابة صوتي بحت. يطلق على تلك الكتابة مسمى النقوش السيناوية الأولية، لأننا لم نعثر على عدد كافٍ منها لتكوين صورة متكاملة عن نظام الكتابة ذاك، لكن ما عثرنا منه على الكثير كان الكتابة الفينيقة. تُمثِّل الكتابة الفينيقة أول نظام كتابة صوتي محكم، وفيه أخذ الفينيقون النقوش السيناوية وجعلوا كل رمز يمثل القيمة الصوتية لأول صوت في الكلمة التي يعبر عنها الرمز. فصار الرمز الذي يعبر عن كلمة بيت هو الحرف الذي يعبر عن صوت ال”ب” (اللغة الفينيقة، مثل العربية، لغة ساميّة أيضًا ولذا تتشابه بعض الكلمات بينهما). وكان الفينيقيون شعبًا متاجرًا جاب البحر المتوسط حاملًا معه لغته وكتابته، وحيثما حل الفينيقيون تركوا معهم كتابتهم التي تلقفها السكان المحليون وبنوا منها أنظمة كتابتهم الخاصة، وأشهر من فعل ذلك الإغريق. طوّع الإغريق الحروف الفينيقة لتلائم لغتهم لكنهم أبقوا أسماء الكثير من الحروف على حالها، فمثلًا أصبح رمز البيت هو الحرف اليوناني بيتا. لكن نظام الكتابة الفينيقي لم يلائم اليونانيين لافتقاره لعنصر في اللغة كان له أهمية كبرى لديهم لكن الفينيقيين، ومن قبلهم المصريون ومن بعدهم العرب، لم يولوه ذات الأهمية، وهو الحروف الصائتة، إذ أن الكتابة الفينيقية كانت لا تُبيِّن سوى الحروف الساكنة، وكان ذلك يلائم لغتهم كما يلائم لغتنا العربية الغنية بالسواكن والفقيرة بالصوائت، إذ نكتفي في أغلب الحالات بكتابة الحروف الساكنة كأن نكتب أن الجرس قد “رن”، بينما حين نقول في الإنجليزية لأحد أن يجري نكتبها “run”. ولذلك استخدم اليونانيون عددا من الحروف الفينيقية للتعبير عن الصوائت عوضًا عن السواكن الفينيقة التي لا يستخدمونها، فصار حرف العين (والذي كانوا يرسمونه عينًا ثم بؤبؤًا دائريًا فقط) حرف الO. وفي النهاية بقيت بعض الحروف الفينيقة مستخدمًة في الكتابة اليونانية ثم الكتابة اللاتينية التي انحدرت منها رغم عدم الحاجة إليها مثل حرف Q الذي كان جده الفينيقي يمثل الصوت المقابل لحرف القاف، كما يخبرنا بذلك ترتيب الحروف الفينيقية الذي استمر مع بعض التعديلات في اليونانية واللاتينية وأيضًا العربية، وهو الترتيب أبجد (alpha beta gamma delta, abcd) هوز حطي كلمن ( ك ل م ن – k l m n) سعفص قرشت QRST.

حين استعار اليونانيون نظام الكتابة الفينيقية فإنهم غيروا أحد السمات الرئيسية لأي نظام كتابة، وهو اتجاهها. فالحروف الفينيقية ومن قبلها المصرية كانت تُكتب من اليمين إلى اليسار عادةً (يمكن أن تكتب الكتابة المصرية من اليسار إلى اليمين أيضًا كما يمكن أن تكتب عموديًّا) وتختلف تفسيرات ذلك لكن أشهرها يقول أنها كتابات تُنقَش على الحجر، ومن ثم فإن الأيسر على غالبية البشر أن يستخدموا يمناهم الأقوى لطرق الحجر وهم يمسكون الإزميل في يسراهم، وتبعهم الإغريق في ذلك أول الأمر ثم بدأوا يبدلون اتجاه الكتابة في كل سطر بأن يبدؤا السطر من اليمين إلى اليسار ثم يبدأوا السطر التالي حيث انتهى سابقه فيعكسون اتجاه الكتابة وشكل الحروف وهكذا بالتبادل. في النهاية صارت كتابتهم تسير من اليسار إلى اليمين دومًا، وهنا أيضًا تختلف التفسيرات لكن أحدها يقول أن الكتابة بالحبر قد أصبحت شائعة حينها ومن ثم صاروا يكتبون من اليسار إلى اليمين حتى لا يمسحوا بيمناهم الحروف التي كتبوها للتو.

ومع مرور القرون تغيرت أشكال الحروف اللاتينية تدريجيا، وظهرت حروف كبيرة وحروف صغيرة، لكن القرن الخامس عشر حمل معه اختراعا سيجعل الحروف مضمارًا للابتكار الهندسي والفنيّ.

الطباعة

يرجع تاريخ الحروف المطبوعة الأولى إلى الألفية الثالثة (الرابعة؟) قبل الميلاد في بلاد الرافدين، وكانت عبارة عن أختام ينقش عليها اسم الحاكم وعهده ويُختم بها الطوب المستخدم لبناء المعابد، وأيضًا على هيئة أسطوانات صغيرة تستخدم لعمل ألواح طينية يكثر استخدامها من الكهنة والجهات الرسمية.

أما استخدام الطباعة لإصدار مستندات ورقية، فيرجع إلى القرن السابع في الصين حيث بدأت تشيع فكرة استخدام القوالب المحفورة -التي كانت تستخدم في القرون السابقة لطباعة الزخارف على القماش – لطباعة المستندات الورقية، وساهم في شعبيتها فكر أحد المذاهب البوذية التي ترى أن النصوص الدينية التي تحمل تعاليم بوذا تتمتع بقيمة روحية ومن ثم يمكن أن تُستخدم كتمائم لجلب البركة. وبعدها بدأت تُستخدم الطباعة على نطاق واسع لمختلف النصوص الدينية وغير الدينية، حيث كانت الصفحة تُنقَش كاملة على لوح من الخشب يُطبع عن طريقه آلاف النسخ، حتى إن إمبراطورة يابانية في القرن الثامن أمرت بطبع مليون نسخة من أحد النصوص البوذية المقدسة ونشرها في البلاد.

ورقة مطبوعة من القرن التاسع الميلادي.

حين يُذكر جوتنبرج على أنه “مخترع الطباعة” فإن أسلوب الطباعة المقصود هو الطباعة بالحروف المعدنية المتحركة، حيث تستخدم عناصر منفصلة (مثل الحروف والأرقام) يمكن تجميعها لتشكيل النص المرغوب عوضًا عن نقش الصفحة بكاملها على لوح خشبي أو معدني، غير أن الصينيين سبقوا الأوروبيين في ذلك بقرون أيضًا، حيث إنهم كانوا يستخدمون البرونز لطباعة مختلف فئات النقود الورقية منذ القرن الثاني عشر. ويعطينا تطور الحروف اللاتينية منذ صَنَع جوتنبرج طابعته في القرن الخامس عشر لمحة عن الرحلة التي تمر بها كثير من التقنيات الجديدة، وأولى مراحلها أن هذه التقنية الجديدة ستسعى إلى محاكاة نتائج التقنيات أو الأساليب السابقة حتى وإن كانت تعمل بأسلوب مختلف تمامًا وكانت قادرة على الإتيان بنتائج جديدة كان يصعب تحقيقها في السابق.

تبدأ عملية صناعة الخطوط الطباعية المعدنية برسم شكل الحرف على قطعة معدنية (punch)، ثم تُحفَر الحواف الخارجية للحرف ومعها بعض التفاصيل الخارجية، أما التفاصيل الغائرة التي يصعب الوصول إليها (مثل التجويف الداخلي لحرف O) فكانت تُحفَر على قطعة معدنية ثانية (counterpunch) تُطرَق في الأولى لتُنتِج الشكل المطلوب، لكن هذه القطعة لا تُستَخدم مباشرة للطباعة، إذ أن الصفحة الواحدة قد تحتوي على عشرات التكرارت من الحرف الواحد، وبدل حفر عدد هائل من القطع فإن هذه القطعة تستخدم لحفر الشكل النهائي للحرف في قطعة من النحاس تُستخدم قالبًا يُصَب منه عشرات النسخ من الحرف الواحد.

يمثل كل حرف من حروف الأبجدية في عملية الطباعة هذه عملًا يجمع بين اعتبارات وقيود وظيفية وعملية بحتة، مثل حجم التفاصيل الممكن حفرها باليد والتي ستتحمل ضغط عملية الطباعة وأيضًا ملاءمتها للورق والحبر المستخدمين، وبين رؤية فنية جمالية معينة للكتابة. وتحمل رحلة أشكال الحروف التي ظهرت على مدار القرون الخمسة التي مرت منذ اختراع الطباعة عناصر تخبرنا عن تعامل البشر مع التقنيات الجديدة وعن الاتجاه الفني العام في هذه القرون.

image

صُمِّم هذا الخط في سبعينيات القرن الماضي خصيصًا لطباعة دليل الهاتف، وكان الهدف من تصميمه توفير نفقات الطباعة عبر استخدام حجم أصغر للخط دون جعل القراءة أصعب بكثير، ولذا تظهر عند نقاط التقاء الخطوط فيه فجوات صغيرة تتيح مجالًا لانتشار الحبر بشكل طبيعي عند الطباعة بحجم صغير.

عندما تظهر تقنية جديدة، فكثيرًا ما يعمد مبتكروها لمحاكاة التقنيات السابقة والتواؤم معها، وقد يكون ذلك أحيانًا لخلق شعور من الألفة مع هذه التقنية الجديدة كما فعل مصمموا واجهة المستخدم لهواتف آيفون الأولى، وأحيانًا أخرى بهدف جعل استخدامها بدل التقنيات السابقة أيسر، فلا تزال أحدث المصابيح العاملة بتقنية LED اليوم تستخدم لتثبيتها في الثريات “القلاووظ\thread” الذي وضع موصفاته توماس إديسون في القرن التاسع عشر.

iOS 6 was the peak of Apple's realistic, skeuomorphic interfaces

واجهة مستخدم هواتف آيفون الأولى؟ iOS6

Edison screw, the threads are the neutral and the bottom is the live connection

وبالمثل استخدم جوتنبرج لمطبوعاته خطوطًا مشابهة للخطوط المستخدمة في مدينته حينها، فاستخدم ما يسمى الحروف السوداء أو الكتابة القوطية والتي تطورت عن أشكال الحروف السابقة إثر النمو العلمي والثقافي لأوروبا في أواخر القرن الثاني عشر والذي ترتب عليه الحاجة إلى كتابة كم أكبر من الكتب بسرعة، لكن سرعان ما انتقلت الطباعة إلى استخدام الحروف رومانية الطابع، والتي لا تزال الشكل الأكثر شيوعًا للحروف اللاتينية إلى يومنا هذا.

الصفحة الأولى من طبعة جوتنبرج للكتاب المقدس

نص مطبوع بالحروف رومانية الطابع يعود إلى عام 1475

كانت تلك الحروف تُكتب بقلم ذي سن عريض، فحملت الحروف بصمات ذلك القلم وأيضًا بصمات حركة اليد وزاوية الإمساك بالقلم، ورغم أن الحروف الطباعية كانت تُحفر على قطع من المعدن إلا أنها حملت هذه البصمات أيضًا.

خط رقمي حديث يحاكي تصميم الخط الطباعي المستخدم في النموذج السابق، ويظهر أثر إمساك القلم ذي السن العريض في أن الخطوط الرأسية أسمك من الأفقية قليلًا، وأنها كانت تُمسك بزاوية كما يوضح ذلك محور التباين المائل في حرفي O وE، كما تظهر الأقدام الصغيرة في أسفل الخطوط (وتُسمّى serif) وهي متصلة بالخطوط الرأسية بقوس ناعم نتيجة لكتابته عبر حركة مستمرة من اليد. وكذلك تكون نهاية الحروف نهاية طبيعية تحاكي شكل القلم. ويمكن تشبيه هذه النزعة إلى الحفاظ على الشكل التقليدي للحروف مع الروح الفنية للعصر كما تظهر في الفن التشكيلي حينها إذ كان الفنانون يميلون إلى الواقعية التامة ويكتفون بجعل اختياراتهم لعناصر التكوين الفني وتوزيع النور والظل مجالًا للتعبير عن رؤيتهم الذاتية.

بدأ بعدها مصمموا الخطوط في استغلال إمكانيات هذا الوسط الجديد وبدأوا يتحررون شيئًا فشيئًا من قيود اليد والقلم، ليظهر في أواسط القرن الثامن عشر شكل من الخطوط نُطلق عليه الآن “الخطوط الانتقالية”، فنجد أن التباين بين سمك الخطوط الرأسية والأفقية قد زاد، وأصبح محور التباين رأسيًا، كما أن نهايات الحروف لم تعد مقيدة بشكل القلم تمامًا بل أصبحت نهايات مرسومة بعناية، وأصبحت الأقدام الصغيرة منتظمةً وأقل سمكًا إلى أنها لا زالت متصلة اتصالا ناعمًا بجسد الحرف.

وفي القرن التالي أتت الخطوط الحديثة التي أخذت الكثير من العناصر السابقة إلى أقصاها، فأصبح التباين بين سمك الخطوط الأفقية والرأسية مفرطًا، وأصبحت نهاية الحروف دوائر تامة مرسومة بعناية، وأصبحت الأقدام الصغيرة مجرد خطوط تتصل اتصالًا حادًا بجسد الحرف. وتتماشي هذه السمات مع الحركة الرومانسية التي ظهرت

undefined
undefined

لوحة “متجول فوق بحر من الضباب” التي رُسمِت عام 1818، ونموذج طباعي يرجع إلى العام نفسه.

تظل هذه الخطوط بالنسبة لنا اليوم خطوطًا كلاسيكية، فما نعده خطوطًا حديثة وعصرية هي الخطوط التي تفتقر لتباين واضح في سمك الخط ولا تنتهي خطوطها بتلك الأقدام الصغيرة، وتلك لها تاريخ غني أيضًا كما توضح لنا الكثير عن فهمنا للأشكال والحروف وكيف نراها.

صحيح حسابيًّا، خاطئ بصريًّا

تسمى هذه الفئة من الخطوط Sans-Serif ولها جذور تاريخية قديمة لكن أول ظهور موثق لها في عالم الحروف الطباعية يعود إلى قرابة عام 1816، وهو الخط المصري الذي أصدرته مطبعة كاسلون الإنجليزية، وسمي هذا الشكل من الحروف أول الأمر مصريًّا لإن شيوعه ترافق مع حمى الهوس بالمصريات التي اجتاحت أوروبا عقب الحملة الفرنسية على مصر ورأوا في خطوطه التي تبدو كُتَلًا ثقيلة تشابهًا مع العمارة المصرية القديمة.

تبدو لنا جميع الخطوط في هذا الخط الطباعي متساويةً في سمكها، لكن عند قياسها يتضح أن الواقع عكس ذلك. فنحن البشر عندما ننظر إلى نص مكتوب نرى صورةً كليًّة تؤثر فيها أحجام الخطوط والأشكال واتجاهاتها والمسافة بينها وطبيعة أعيننا، ومن تفاعلات ذلك كله نخرج بالحكم أن الخطوط “متساوية”.

Alternate Text

كثيرًا ما يُقال أن ارتداء ملابس مقلمة بخطوط رأسية يجعل مرتديها يبدو أطول وأنحف، ويبدو أن الأمر ذاته ينطبق على الحروف إذ أننا نستشعر أن الخطوط الرأسية تبدوا أرفع من الخطوط الأفقية، فإذا أردنا أن نجعلهما يبدوان متساويين علينا أن نجعل الخطوط الأفقية أرفع، وعند الانتقال من خط رأسي إلى أفقي تتغير سماكة الخط تدريجيًا، وهذا ما يحدث في كافة الخطوط. فإذا نظرنا إلى أشهر الخطوط الطباعية ذات التصميم الهندسي، خط Futura الذي طرح عام 1927، سنجد أن حرف O يبدو مجرد دائرة هندسية، لكن إذا قلبناه على جانبه يتبيّن أن تجويفه الداخلي إهليلجي الشكل وليس دائريًا.

Alternate Text

كما يتبين في الحروف الدائرية -والمدببة- تأثير بصري آخر، وهو أننا نحكم على الصورة بمجملها، وفي حين أن المربعً يصل بكامل ثقله إلى جميع حوافه، فإن الثقل البصري للدائرة يتركز عند داخلها، ولا تمس الحواف إلا عند نقطة واحدة، ومن ثم ينبغي جعلها أكبر حتى تبدو مساويًا للخطوط المربعة، وكلما كان الانحناء أشد كان الفرق في الحجم أكبر. وينطبق الأمر ذاته على سمك الخطوط المنحنية في الخطوط ذات التباين العاليSquare and round shapes: mathematically equal, or optically equal

Alternate Text
Progressive overshoots for round and pointed shapes

للتقنيات الجديدة ضحاياها

كان إنتاج الخطوط المعدنية عملية باهظة تستغرق وقتًا طويلًا، إذ يجب حفر كافة الحروف حرفًا بحرف، ومعها الأرقام، وعلامات الترقيم، ثم عمل ذلك كله من جديد لكل حجم ممكن الطباعة به. لكن هذا كان يتيح تعديل تصميم الخط ليلائم الحجم الذي سيُطبَع به، فحين يطبع نص بحجم صغير فإن الاهتمام الأكبر ينصب على مقروئية النص، وحين يطبَع بحجم كبير فإن الهدف يكون عادة جعله جذابًا من الناحية الجمالية. ولذا نجد الأحجام الأصغر من النص تعزز العناصر التي تسهل القراءة فتجعل التفاصيل الدقيقة أمتن، وتزيد من حجم جسد الخط نسبة إلى امتداداته الرأسية، وتوسع المسافة بين الحروف أيضًا.

Alternate Text

Compensations from twenty-four point to six point: Century Expanded by L. B. and M. F. Benton, American Type Founders 1900

لكن حين أتت الطباعة الرقمية، أصبح بالإمكان تصميم خط واحد وتكبيره أو تصغيره بلا حدود، فأصبح الشائع أن نجد شكلًا واحدًا للخط ربما يكون ملائمًا للنصوص الصغيرة لكنه ليس أفضل خيار ممكن للعناوين الكبيرة أو العكس، لكن لا يزال بعض المصممين أحيانًا يُصمِّمون نسختين من الخط إحداهما للنصوص الصغيرة والأخرى للكبيرة.

أما فيما يخص الكتابة العربية فقد خلّفت الطباعة -بما حملته من سمات القرون السابقة- أثرًا لا تخطئه العين، إذ أن جميع النصوص المطبوعة تحمل علامة لم تحملها النصوص العربية من قبل، وهي إقحام مسافة بين كل كلمة وأخرى. فللحرف العربي شكل معين يستخدم في نهاية الكلمة، ومن ثم فلسنا بحاجة إلى وضع “مسافة” بين الكلمات، لكن الطباعة أتت إلينا معتادة على وضع مسافة بين الكلمات فصرنا نفعل ذلك.

مصحف عثماني يرجع إلى عام 1790

Image

المصحف الأميري، طُبع عام 1924 بالقاهرة وهو أول مصحف يُطبع بالحروف المعدنية المتحركة.

شارك هذا الـمقال