يقول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد في كتابه (إما\أو): “تزوج؛ ستندم، أو لا تتزوج؛ وستندم أيضًا، اضحك من تفاهة العالم؛ وستندم، أو ابكِ بحرقة منها؛ وستندم كذلك، اشنق نفسك؛ وستندم، أو لا تشنق نفسك؛ وستندم، بكل الحالات ستندم”.
دائماً ما خطرت لي تلك المقولة في أوقات الأزمات الشخصية، وتحديداً في لحظة ما بعد التعرض للرفض، سواء الرفض من علاقة عاطفية أو علاقة صداقة أو حتى مجرد الرفض من القبول في وظيفة أو موقع اجتماعي مختلف، قد تبدو تلك الجملة عدمية وحزينة لكنها دائماً ما كان لها وقع السحر، فما كنت أظن أن الحياة يمكن أن تتوقف بدونه؛ ظهر دائماً على أنه حدث عابر، بل وحتى ان افترضنا حدوثه أي لم نتعرض لهذا الرفض فما من ضمانة أننا لن نندم ونشعر بحزن مماثل في لحظة ما.
في أوقات متفرقة من الحياة نُقابل جميعاً بالرفض، ويأتي حاملاً معه عدد من المشاعر المؤلمة، أولها شعور بضعف التقدير الذاتي، أي أن صورتنا أمام أنفسنا تعرضت للتو لهزة وتشويش بقدر غير مسبوق، وثانيها شعور بالألم الجسدي وكأن جسدنا نفسه تعرض لضربة مؤلمة، فبحسب أحدث الدراسات التشريحية؛ فالمخ البشري تشترك فيه المناطق التي تعالج الألم الجسدي مع المناطق التي تعالج الأزمات الاجتماعية والعاطفية، ومع الوقت تتحول تلك المشاعر بشكل مكبوت الي رغبة في عدم التكرار والابتعاد عن أي علاقة مستقبلية، مع حنين دائم للشخص الأخر أو ذلك الصديق الغائب، وكأنه حنين للفردوس المفقود والفاكهة المحرمة.
وفي مجتمعات الأزمة سواء في منطقتنا العربية أو حتى في العالم الغربي، تتحول مشاعر الحزن والألم الي مشاعر غاضبة وتتوجه بالعنف ضد الطرف الضعيف، تحديداً تجاه الفتاة أو المرأة التي رفضت علاقة عاطفية أو حتى طلب زواج، والذي أدى لتنامي ظاهرة “التبتل القهري Involuntary Celibacy”، وظهور مجتمعات الانسيلز وثقافة الحبة الحمراء التي تتهم النساء والحركات النسوية بأخذ موقف منهجي يقوم على رفض الرجال ذوي القدرات الاجتماعية والمالية المتدنية وهزيمتهم نفسياً.
إذاً فكيف يمكن التغلب على مشاعر الرفض ومنعها من أن تتحول لرد فعل عنيف تجاه الذات أو الأخر؟
البحث عن الذات من خلال الآخرين:
لدى كلاٍ منا تصوره الخاص عن نفسه، عن صورته في المرآة التي كبر وهو يطالعها، لكنها تلقت للتو ضربة شديدة بعد الرفض وأدت لفقدان الثقة بأنفسنا، يقول المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان؛ أن نظرتنا الذاتية عن أنفسنا هي صورة من عالم الفانتازيا fantasy order تكونت داخلنا نتيجة لعوامل التنشئة ومراقبة الكبار، ونعتقد في دقتها كما لو كانت معطى يقيني تعطينا إياه الحواس، لكنها في الحقيقة صورة مزيفة وليست لها أي واقعية، أي أن تخيلنا وتأملنا لذواتنا في الحقيقة معيوب ويتخلله الكثير من الاضطرابات الغير منظورة، وفي المقابل يقترح علينا نمط أخر وهو العالم الرمزي Symbolic Order وهو عالم من الإشارات والدلالات الاجتماعية التي تمكننا أن نتعرف على ذواتنا وأنفسنا من خلاله، وهو ينشأ بشكل بين ذاتي، أي من خلال المجتمع والأصدقاء والأقران، أي أن الصورة المضطربة والمشوشة لذواتنا التي تسببت فيها عقدة الرفض، يمكن إصلاحها وتعميقها من خلال رحلة للتعرف على الذات وسط الأخرين.
وهي النصيحة نفسها التي يُسديها المعالجين النفسيين اليوم، اللجوء للأصدقاء والمعارف ممن اختبروا تلك الأزمة وتمكنوا من تجاوزها، فبحسب أحدث الدراسات النفسية، أمكن لنا أن نفهم كيف يمكن لمن مروا بمشاكل نفسية واجتماعية أن يتحسنوا من خلال التفاعل مع الأخرين وطلب الدعم، ومن خلال المشاركة في الأفكار والسلوكيات وحتى النشاطات المشركة مثل الرياضات وغيرها.
تأمل مواقع الأخرين:
بمجرد تجاوز اللحظة المؤلمة الناتجة عن الرفض مباشرة؛ لابد من تأمل الصورة الأكبر، أي التعامل مع الحدث وكأنه مشكلة لابد من حلها بشكلٍ عقلاني، أي التوقف عن التفكير بها بشكل عاطفي، والتفكير في الاحتمالات الواسعة والفرص التي يمكن أن نقابلها خلال حياتنا ربما بشكل غير مخطط، وكيف يمكن تحويل المشاعر السلبية الأنية في اتجاه منتج أكثر، واحدة من القصص التي دائماً أتذكرها يحكيها الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، يحكي جيجك أنه في فترة من حياته تعرض للرفض وانتهت علاقته بشريكته بشكل درامي، فقرر الانتحار، لكن قبل أن يُقدِم على ذلك أراد أن يكتب رسالة يشرح فيها لماذا قرر أن يفعل ذلك، ويقول أن الرسالة توسعت بشكلٍ كبير الي الدرجة التي جعلته يستغرق أكثر من نصف حياته في الكتابة والتفكير والمحاضرة، هنا تمكنت الكتابة والعمل من تغيير حياة شخص تعرض للرفض، وكذلك الكثير من النشاطات والمهمات والأعمال التي يمكن أن تستغرق طاقتنا وتفكيرنا.
التفكير بشكل عقلاني يعني وضع الحدث كله في السياق الموضوعي، أي التفكير في الأخرين وموقعهم بشكل اجتماعي، ما يمكننا من أن نتخلص من عقدة الضحية والحكم بشكل أخلاقي على الأخرين، هل نحن السيئين أم الأخرين؟ لا توجد إجابة لأن السؤال نفسه خاطئ، فموقع الطرف الثاني هو من دفعه للرفض، ربما يمر الصديق أو الحبيب بظرفٍ خاص أو لديه تطلعات وخطط أخرى، ربما لسنا الشخص المناسب له وليس المناسب بشكلٍ عام، فالرفض هنا لم يكن موقفاً يمكن للجميع أن يأخذه منا بنفس الكيفية، حتى نحن؛ فمشاعرنا السلبية اكتسبناها نتيجة تطور المخ البشري على مدار ألاف السنين بشكل اجتماعي، أي أن التفكير بشكل موضوعي في الاستجابة العاطفية للشخص الذي تعرض للرفض يؤدي لتفهمه وقبوله هذه المشاعر السلبية وأنها غير دائمة ويمكنها أن تتبدل مع تجربة اجتماعية أخرى، فالانسان في النهاية هو حيوان اجتماعي تعرضه للرفض مرة أو حتى مرات لا يعني أنه شخص منبوذ أو مرفوض بشكلٍ شخصيّ، بل فقط أن موقعه ومواقع الاخرين لم تكن مناسبة هذه المرة.