⁠العاشرة مساءً
١٥٩٢ كلمة
٠ تعليق

يعود يحيى الفخراني (شاكر) إلى مصر بعد رحلة عمل استمرت 8 سنوات قضاها في الخليج، ليبدأ مهمة لمّ شمل عائلته المكونة من 4 إخوة هو خامسهم، حيث يجدهم مشتتين وتائهين، يكاد ألا يتعرّف على أحد منهم، هذه هي قصة فيلم “عودة مواطن” للمخرج الكبير محمد خان، الصادر عام 1986، والذي يسلط الضوء على التفكك الأسري والمجتمعي الذي طرأ على مصر إبان حقبة الانفتاح التي قادها السادات.

مثّل الفنان أحمد عبد العزيز (إبراهيم) دور أحد الإخوة الخمسة، وهو شاب في نهاية العقد الثالث من عمره، تخرج من الكلية ولم يستطع إيجاد وظيفة، فأخذته حياة العاطلين عن العمل، حيث ارتياد المقاهي يوميًا والسهر لساعات متأخرة… وإدمان لعبة الشطرنج.

لم يكن الشطرنج بالنسبة لإبراهيم مجرد لعبة يتسلى بها في أوقات فراغه، إذ إن أوقاته كلها فراغ، كان الشطرنج بمكانة طوق النجاة لقتل الوقت وتشتيت الذهن عن سخطه وغضبه من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي قادت حياته إلى ذلك المصير الكئيب.

فأخذ يتعلم فنون اللعبة وخططها وتكتيكاتها، ويقضي ساعات طويلة يوميًا في الدراسة والتدريب، إلى أن واجهه أخوه الأكبر شاكر، وسأله عن سبب حبه المتأخر للعبة الشطرنج، وكانت إجابته أنه قادر على إلهاء المرء لمدة طويلة جدًا دون شعور بالملل أو بمرور الوقت.

ربما تقودنا تلك القصة المثيرة للذهن للتساؤل حول طبيعة الشطرنج، خصوصًا مع تزايد شعبيته عالميًا في السنوات الأخيرة على نحو لافت، هل يعد نشاطًا يشير إلى ذكاء ممارسيه حقًا، أم أن للقضية جوانب مظلمة لا نعرفها؟

أسطورة الذكاء الخالص

يسود اعتقاد عام بين أغلب الناس أن ممارسة الشطرنج تتطلب ذكاءً حادًا، وبالرغم من أن ذلك الاعتقاد لا يعد خاطئًا تمامًا، إلا أنه يفتقد إلى كثير من الدقة، إذ إن ممارسة الشطرنج تتطلب قدرًا يسيرًا من الذكاء ومهارات الإبداع بالطبع، ولكن كذلك إلى كثير من المتطلبات الأخرى.

بداية، علينا أن نشير إلى أن مباراة الشطرنج تنقسم إلى ثلاث مراحل، أولها يُدعى الافتتاح، والثاني منتصف المباراة، أما الثالث فيُسمى النهايات.

بينما تتطلب مرحلة منتصف المباراة القدر الأكبر من الذكاء والإبداع، تحتِّم مرحلتا الافتتاح والنهايات على اللاعب الكثير من الحفظ والدراسة حتى يستطيع سبر أغوارهما بأكبر كفاءة ممكنة.

فالشطرنج يحتوي على عشرات الافتتاحيات المدروسة والمحفوظة سلفًا، وكل افتتاحية تنطوي على عشرات التفريعات الممكنة نتيجة الاحتمالات العديدة، لذا؛ نجد أنفسنا أمام مئات الخطط التي يجب على اللاعب أن يدرسها بإتقان شديد إذا أراد أن يطور مستواه.

كما أن الحفظ في تلك المرحلة من المباراة لا غنى عنه، إذ إن احتمالات النقلات الممكنة وتفريعاتها تكاد تكون لا نهائية، مما يصعب على العقل البشري معالجة تلك الكمية الكبيرة من الأفكار، وفي أقصر وقت ممكن بالطبع، فمباريات الشطرنج تُلعب في إطار وقت محدد. هنا يجد اللاعب نفسه أمام ضرورة حفظ أكبر قدر ممكن من الخطط حتى يتجنب هزيمة سريعة ومخزية بعد عدد قليل من النقلات.

أمام تلك الحقيقة نجد أن ممارسة الشطرنج تحتاج إلى ذاكرة قوية، بالإضافة إلى تدريب لفترات طويلة جدًا حتى يتسنى للاعب حفظ هذه الكمية الكبيرة من الخطط، مما يحيلنا إلى أسطورة الذكاء الخالص التي تحيط بما يُطلق عليها لعبة الملوك، فالتدريب الشاق وامتلاك ذاكرة جيدة أمور جوهرية للتطور في الشطرنج.

ذلك ما ذكره اللاعب الأسطوري وبطل العالم السابق، الأميركي بوبي فيشر، خلال حوار أجراه في نهاية حياته، حيث قال إن الشطرنج يعتمد على الحفظ وامتلاك ذاكرة قوية والتحضير الجيد قبل المباريات أكثر من الذكاء والإبداع كما يُشاع عنه.

وسواس تفوق الأنا

“أعشق اللحظة التي أسحق فيها غرور خصمي”.
— بوبي فيشر

تنطوي لعبة الشطرنج على جانب شديد الظلامية من النفس البشرية، ألا وهو الغرور والأنانية والامتلاء بشعور التفوق على الأقران، ولا شيء يمنح هذا الشعور الجميل والخبيث أكثر من انتصار في لعبة تعتمد على قوة العقل.

تلك المشاعر هي ما حوّلت أعتى اللاعبين إلى الهوس بالفوز لدرجة الجنون أحيانًا، فقد اشتهر بطل العالم السابق، الروسي فلاديمير كرامنيك، باتهام منافسيه بالغش إذا ما تمكنوا من الفوز عليه، حيث اتهم الأستاذ الدولي الكبير الأميركي هيكارو ناكامورا بالغش بعد أن فاز عليه في مباراة إلكترونية على موقع Chess.com، أشهر منصة للعب الشطرنج في العالم، كما طال الاتهام بالغش أيضًا الأستاذ الدولي الكبير الهندي نيهال سارين، بالإضافة للكثير من اللاعبين الأقل شهرة.

انتقل هوس عدم تقبل الخسارة بين نخبة اللاعبين إلى بطل العالم السابق والأعلى تصنيفًا في الوقت الحالي، النرويجي ماجنس كارلسن، حيث اتهم منافسه الأستاذ الدولي الكبير الأميركي هانز موك نيمان بالغش في إحدى البطولات بالولايات المتحدة، وهو ما دفعه إلى الانسحاب من البطولة لتسجيل اعتراضه.

تنبع الشكوك الخاصة بالغش بين اللاعبين من التطور الهائل الذي طرأ على التكنولوجيا الخاصة بمحركات الشطرنج الذكية، فقد بلغ التقييم التقديري الخاص بالمحرك الأشهر المعروف بـ “ستوك فيش” نحو 3800 نقطة، أي أنه يفوق أفضل لاعب في العالم بنحو 1000 نقطة، ما يجعل مهمة هزيمته مستحيلة على أي عقل بشري مهما بلغت درجة إتقانه للعبة.

إذ يمكن استخدام المحرك بسهولة على الإنترنت من أجل معرفة أفضل النقلات في الأوضاع المعقدة والحساسة ما يضمن أفضل نتيجة ممكنة.

يجدر الإشارة إلى أن تلك الاتهامات تؤخذ على نحو جدي للغاية سواء من الاتحاد الدولي للشطرنج أو من إدارات المنصات الإلكترونية الخاصة باللعبة، ورغم كون الاتهامات مصدرها أبطال عالم سابقين، لم يُثبت أي اتهام بعد إجراء كافة التحقيقات الممكنة، وظلت هذه الاتهامات مصدرًا للتندر والفكاهة بين جمهور الشطرنج حول العالم.

تلك الحقيقة المخيفة عن العناد المرضي وعدم تقبل الهزيمة في الشطرنج تحيلنا إلى حقيقة أخرى لا تقل سُمّية، ألا وهي إدمان الفوز.

فقد أُشير إلى أن الاعتياد على لعب الشطرنج يوميًا لفترات طويلة، خصوصًا مع وجود منصات عالمية للعب الشطرنج على الإنترنت مثل “تشيس دوت كوم” الذي سجل ما يزيد عن مليار مباراة خلال شهر مارس/آذار 2023، يولد سلوكًا أشبه بالإدمان.

حيث ذكر موقع “تشيس فور شاركس” (Chess for Sharks) في مقال نُشر مطلع العام الجاري أن لعب الشطرنج يحفز نفس مراكز المتعةفي المخ المرتبطة بالمواد المسببة للإدمان مثل المخدرات والكحول، إذ إن كل نقلة يقوم بها اللاعب تحفز إفراز الدوبامين في الدماغ، وهو الهرمون المسؤول عن الشعور بالمتعة والمكافأة.

ما يعزز ذلك السلوك الإدماني هو النظام المعمول به في الاتحاد الدولي للشطرنج وكذلك في المنصات الإلكترونية الخاصة بممارسة الشطرنج، وهو ما يعرف بنظام ELO، الذي يحدد مستوى كل لاعب من خلال عدد النقاط التي تشير إلى درجة إتقانه للعبة، فكلما فاز بمباراة زاد تقييمه، والعكس صحيح.

حيث كتب أحد اللاعبين على منصة “تشيس دوت كوم” معلقًا على عريضة تناقش السلوك السام في مجتمع الشطرنج أن نظام ELO أصبح بمثابة نظام تقييم اجتماعي، فكلما زاد تقييمك كلما حصلت على تقدير اجتماعي أكبر.

تلك الحالة التي صنعها صعود منصات الشطرنج الإلكتروني تحديدًا، حيث أصبح الشطرنج متاحًا للجميع وبسهولة، فقد أسهم بقوة في تعزيز السلوك الإدماني، فكلما زاد تقييمك زادت الرغبة في تحسينه أكثر، وكلما خسرت اندفعت نحو تعويض خسارتك، ذلك ما يتشابه إلى حد كبير مع سلوك المدمنين على ألعاب القمار.

نزع إخصاء الحداثة

يهيمن الذكور على لعبة الشطرنج على نحو مثير للتأمل، حيث كانت نسبة لاعبات الشطرنج عالميًا حتى عام 1990 لا تتجاوز 4%، وقد ارتفعت هذه النسبة لاحقًا لتصل إلى 14% وفق آخر تحديث، وهي زيادة كبيرة لكنها لا تزال تمثل أقل من خُمس لاعبي الشطرنج حول العالم.

كما أن الأمر لا يتعلق فقط بالعدد، بل بالجودة أيضًا، إذ إن أفضل لاعبي العالم من الذكور حاليًا، ماجنس كارلسن، يساوي تقييمه وقت كتابة هذه الكلمات 2830 نقطة، وفي المقابل تقف الصينية يفان هو، أفضل لاعبات الشطرنج حاليًا، عند حاجز 2632 نقطة، أي أن الفارق نحو 200 نقطة، وهو فارق هائل في المستوى، كما أن تاريخيًا لم تقترب أي بطلة عالم في الشطرنج من مستوى نظيرها من الذكور.

تلك الحقائق التي دفعت مجتمع الشطرنج إلى تطوير أفكار خاصة بـتفوق الذكور على الإناث، ليس فقط في الشطرنج، بل بشكل عام، انطلاقًا من اعتبار الشطرنج ممارسة تقوم أساسًا على القوة العقلية.

الجدير بالذكر هنا أن تلك المعتقدات لا تخص فقط اللاعبين الهواة على الإنترنت، بل إنها تُنسب إلى أعظم لاعبي الشطرنج في التاريخ، فعندما كانت المجرية جوديت بولجار — التي تُعتبر على نطاق واسع أفضل لاعبة في تاريخ الشطرنج — تبهر العالم في سنواتها المبكرة، حيث كان يُنتظر منها أن تكون طفرة في تاريخ الشطرنج النسائي، لم يقتنع بها بطل العالم حينها الروسي جاري كاسباروف.

فقد صرّح بأنها “في نهاية المطاف امرأة”، مبررًا ذلك بقوله: “الأمر كله يرجع إلى عيوب النفس الأنثوية، لا يمكن لامرأة أن تتحمل معركة طويلة.”

ولا يقتصر الأمر على كاسباروف وحده، بل إننا نجد الرأي ذاته وعلى نحو أعنف عند بوبي فيشر الذي يعده كثيرون الأفضل في تاريخ اللعبة، حيث قال خلال لقاء في شبابه إن النساء لا يتميزن بالذكاء بالقدر الكافي لممارسة الشطرنج، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث اعتبر أن النساء لا يجب عليهن ممارسة أي نشاط خارج حدود المنزل، إذ إنهن لا يصلحن لأي شيء!

تلك الرؤية شديدة العنصرية تجاه النساء داخل مجتمع الشطرنج الذي يهيمن عليه الذكور، كانت أحد الأسباب لدى كثير من لاعبي الشطرنج الهواة لممارسة اللعبة من أجل استعادة شعورهم القديم بالتفوق على النساء، ذلك الشعور الذي حاربته قيم الحداثة التي دعت إلى المساواة بين الجنسين منذ سنواتها الأولى، كما ازداد الأمر تعقيدًا بعد نمو الحركات النسوية حول العالم في العقود الأخيرة، وما نتج عن ذلك من نزع الهيمنة الذكورية على المجتمعات، ولو على نحو محدود، لمصلحة مزيد من الحريات والحقوق للمرأة.

ربما تشير تلك الحقائق المتفرقة عن لعبة الشطرنج وعالمها السري، إذا ما وضعناها جنبًا إلى جنب، إلى السر وراء الجاذبية السحرية للشطرنجإذا ما وقع الإنسان تحت سطوته، فيجد نفسه أسير المربعات البيضاء والسوداء لبقية حياته دون كلل أو ندم.

والآن بات بإمكاننا أن نستبصر أسباب الحالة التي تسببها ممارسة الشطرنج بانتظام، الإسراف في اللعب والدراسة، وعدم الشعور بالملل ولا الانتباه لمرور الوقت، كل تلك الأعراض لا تعد مؤشرًا على الذكاء والنبوغ وحدهما، بل إنها تشير أيضًا إلى جملة من المشكلات التي ربما تعمل ممارسة الشطرنج على تسكينها.

أو قد يكون الأمر ببساطة هو مزيج من النبوغ والجنون، كما يقول مصطفى صادق الرافعي في كتابه “المساكين”:

“وما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة، ولا النبوغ إلا جنون رقيق.”

شارك هذا الـمقال