⁠العاشرة مساءً
٨٠٨ كلمة
٠ تعليق

في هذه اللحظة، وأنت تقرأ، هناك من يستعرض ساعة لا تقلّ عن خمسة آلاف دولار على “تيك توك”، وآخر يصوّر رحلته على اليخت وكأنها نشاط صباحي عادي، وثالث يسرد كيف بنى ثروته من لا شيء، وينصحك بألا تشتري القهوة لأن ذلك سيمنعك من امتلاك عقار. في “إنستغرام”، هناك نساء بملامح لا تعرف إلى أي مدرسة جمال تنتمي، مسافرات، خفيفات، يقطرن ثقةً في النفس، يرقصن في المطارات ويبتسمن في البياض الفائق للفلاتر.

وأنت؟ تجلس على كرسي متواضع، تفكر في إيجار الشهر القادم، أو في قسط متأخر، أو في فكرة مشروع لم تكتمل، أو في حب لم يُفتح له باب. هذا المقال ليس شكوى. بل هو محاولة للتأمل في كيف نعيش الطريق الطويلة… وسط عالمٍ يتفاخر بالوصول.

عن التيك توك والفوارق الصامتة


في الطبقات التقليدية، كان الغني لا يراك. والفقير لا يظهر. كان لكل طبقة مساحتها ومقاهيها ولغتها. أما الآن، فالكل في الهاتف نفسه. أنت والشيخ صاحب الطائرة الخاصة تفتحان التطبيق ذاته. كل فيديو تراه يمرّ على دماغك، لا كمعلومة، بل كمقارنة. والأخطر؟ أن المنصات لا تراك كإنسان، بل كـ”سلوك رقمي”. فإذا وقفتَ قليلًا على فيديو عن فيلا، أُغرقتَ بعدها بسيل من العقارات والساعات والسيارات والبنات. هكذا يتحوّل التيك توك إلى مرآة خادعة: تعرض لك ما تعتقده الحياة، لا ما تعيشه حقًا.

الجمال… حين يتحوّل إلى معيار وجود


في “إنستغرام”، الحكاية أشد فتكًا. ليس فقط لأن المنصة بصرية، بل لأن “الأنوثة” هناك تُقدَّم كمنتج لا يُقاوم. هناك وجوه تُشبه بعضها حدّ الذوبان، لكنها لا تُشبه أحدًا في عالمك الحقيقي. نساء لا يتحدثن إليك، لكنك تراهن أكثر مما ترى أمك أو أختك أو زميلتك. نساء يبتسمن في الضوء المثالي، بينما أنت تتعامل مع إضاءة النيون الباهتة في المكتب أو البيت. تبدأ تدريجيًا بالشعور بأنك “خارج اللعبة”. وأنك، مهما فعلت، لن تنتمي إلى هذا العالم الذي لا يتصبب عرقًا، ولا يعاني من قلة النوم، ولا يحمل وزر الفواتير.

علم النفس: المقارنة بوصفها تآكلًا بطيئًا


في ورقة بحثية نُشرت بمجلة Cyberpsychology, Behavior, and Social Networking، تبين أن قضاء وقت طويل في متابعة المؤثرين الأثرياء والجميلات يرتبط بزيادة مشاعر الاكتئاب، وعدم الرضا عن الحياة، والشعور بالنقص — خصوصًا لدى الفئات التي لم تبلغ بعد الاستقرار المالي أو العاطفي. المشكلة لا تكمن في وجود الأغنياء أو الجميلات. المشكلة أن منصات التواصل أزالت الحواجز بين “الممكن” و”الأسطوري”، وجعلت الأسطوري يبدو يوميًا وعاديًا. فإذا كنت تعاني من بطء الطريق، تشعر وكأنك وحدك من يمشي، بينما الجميع يطير.

الطريق طويلة.. لماذا نختارها إذًا؟


أحيانًا، لا نختارها. هي التي خُلقنا فيها. لا ميراث، لا واسطة، لا نَسب. كل ما نملكه هو: فكرة، أو كرامة، أو تعب. لكننا، رغم كل شيء، لا نريد أن نقفز. نريد أن نبني شيئًا حقيقيًا. نريد أن ننجح دون أن نخون أنفسنا. هذا الطريق الطويل — رغم قسوته — فيه شيء يشبهك. فيه تعرّقك. حيرتك. نضجك. هدوءك في آخر الليل وأنت تعدّ مصاريف الشهر. فيه محاولتك أن تُحب دون أن تشتري الحب، وأن تعيش دون أن تُمثل الحياة.

الفلسفة: الرضا لا يعني الرضا عن القليل


يقول سبينوزا:

“لا تتمنى أن تكون الأشياء كما تريد، بل تعلّم أن تريد ما هي عليه.”

ليست دعوة للكسل، بل دعوة للواقعية. نحن لا نُحسد على ما نملك، بل على قدرتنا أن نحيا بما نملك دون أن نحترق. نحن لا نخسر حين لا نُشبههم، بل حين نفقد علاقتنا بأنفسنا ونحن نطاردهم.

أنا لا أملك ساعة رولكس. ولم أزر المالديف. وليس في حياتي امرأة تصوّرني على شاطئ خاص وتضحك بزاوية الكاميرا. لكنني أملك نفسي. أملك وقتًا أعرف كيف أملؤه. وأملك طريقًا أعرف أنني اخترته — أو على الأقل، لم أبع روحي لأتجاوزه. الطريق طويلة؟ نعم. لكنها تؤدي إلى مكان لا يخجل مني حين أصل. وهذا وحده، يكفيني.

فما العمل؟ لا نريد عزاءً، بل طريقًا ممكنًا


أولًا: الاعتراف بعمق التأثير

ليس كافيًا أن تقول “أنا لا أتأثر.” أنت تتأثر. كلنا نفعل. الاعتراف لا يضعفك، بل يمنحك فرصة لفهم أعمق لحالتك النفسية.

ثانيًا: إدارة العلاقة مع المنصات (وليس قطعها)
خذ ما يفيدك، لكن راقب كيف تشعر بعد كل جلسة تصفح. اسأل نفسك: هل أنا مُلهم؟ أم مستنزف؟ تابع من يضيف شيئًا حقيقيًا، لا فقط بصريًا. واحذف من يُشعرك بأن واقعك خطأ.

ثالثًا: استعادة التحكم في السردية الشخصية
السردية التي تكررها لنفسك كل يوم هي ما يصنع المعنى. هل تقول لنفسك “أنا متأخر”؟ أم تقول: “أنا على طريقي، وهذا يكفيني الآن”? الحياة ليست سباقًا، ولو كانت كذلك، فلكل منا مضمار مختلف تمامًا.

رابعًا: إعادة تعريف النجاح
اسأل نفسك: ما الذي تعتبره نجاحًا؟ هل هو المال فقط؟ الجمال؟ الوصول؟ أم أنك — بصدق — تريد السلام الداخلي، علاقة عميقة، استقلالاً متدرجًا؟ إن لم تعرّف النجاح لنفسك، سيفرضه عليك إنستغرام، وسيذكّرك تيك توك بأنك فشلت.

نعم، الطريق طويلة. والمقارنات لا ترحم. والسوشال ميديا لا تنتظر أحدًا. لكن كل ذلك لا يغيّر حقيقة واحدة:

أن الطريق التي تمشيها، إن كانت نزيهة، صادقة، ومبنية على وعيك بذاتك… فهي طريقك. ليست أبطأ، بل أعمق. ليست فقيرة، بل حقيقية. ولن تُعرض في “ريلز”… لكنها ستُثمر في داخلك، حين يحين وقت الحصاد. فلا تُعدّل مسارك لتلحق بمن يعرضون صور الوصول، بل تمسّك بمشيتك كما تمشي، واصمت كما تصمت، وتقدّم كما تتقدّم، فربما كان هذا بالضبط، هو المعنى.

شارك هذا الـمقال