⁠العاشرة مساءً
١١٤٥ كلمة
٠ تعليق

عالم الكبار غامضٌ ومبهرٌ، نراه صغارًا حُلُمًا بعيد المنال، متلهفين للحاق به كي نمارس أعمال الكبار، ولكي نتخذ قرارات صارمة واضحة مبنية على خبرات متراكمة ومنطق متماسك مثلهم. لكننا نتفاجأ كبارًا أن العالم المزعوم مزيف، وأن القرارات لا زالت عفوية وعشوائية، تمامًا مثل قرار الطفل الذي يحبو أن يضع إصبعه في مقبس الكهرباء ليغذي حسه الاستكشافي.

لكن ومن أجل أن نحافظ على سلامنا النفسي، نحيل أحلامنا وتقديسنا لعالم الكبار إلى مجموعة أخرى من البشر؛ أصحاب الرؤى والأفكار والمصممين والمخترعين، فهؤلاء لا بد أن يكون لهم منطق فيما يفكرونه ويفعلونه، يستحيل أن يكون جهدهم بلا توجه أو هدف، أو لهدف ساذج بلا منطق.

ثم تُصر الحياة والزمن على أن يخذلونا، ونكتشف من جديد أن المجموعة التي توسمنا فيها النباهة والحصافة؛ هي مثلنا، لا حول لها ولا قوة، تتحرك بتوجهات ساذجة في أحيان، وبلا توجهات من الأساس في أحيان أخرى.

المتتبع لتاريخ القرارات المصيرية في العالم عبر العصور المختلفة، مثل قرارات الحروب أو إنشاء المدن العملاقة، يجد أن مصدر هذه القرارات ومنبعها ليس بالضرورة الحكمة والخبرة والاحتياج، إنما منبعها الرئيسي هو مجموعة من الغرائز البشرية المركبة والمتجسدة في شخص أو مجموعة أشخاص بعينهم، ومن أحد أغرب هذه الغرائز والتي يحب التاريخ أن يذكرنا بها دومًا، هي غريزة التحدي وإثبات الكفاءة الجسدية أو العقلية للغير.

أبلغ تمثيل لهذه الغريزة هو فكرة الرهان، قد يبدو في الأمر مبالغة، لكن في القصص التاريخي ما يؤكد لنا أن أحداثًا جسامًا واختراعات هامة كان مبعثها ودافعها هو الرهان.

صناعة السينما والأفلام بالكامل ترجع بدايتها لرهان بين “ليلاند ستانفورد” Leland Stanford وأصدقائه.ليلاند” كان عضو الكونجرس الأمريكي، وعمدة كاليفورنيا، وهو مؤسس جامعة ستانفورد. وفي عام 1872 كان يتسامر مع أحد أصدقائه أثناء استعراضه لمجموعة خيول مملوكة له. وفي ثنايا الحديث ذكر “ليلاند” ملاحظة يراها حقيقة لا جدال فيها، وهي أن الحصان عندما يجري تأتي عليه لحظة تكون فيها كافة قوائمه مرتفعة عن الأرض، فيسخر منه صديقه بقوله إن هذا معناه أن الحصان يطير، وهو لا يعرف حصانًا يطير.

يستشيط “ليلاند” غضبًا ويراهن هذا الصديق على أنه سيثبت له بشكل علمي وموثق الحقيقة التي يحاول إنكارها، فيكلف المصور الأشهر وقتها “إدوارد مايبريدج” Eadweard Muybridge بتسخير فنه ومهارته لتصوير حصانٍ يجري عدة صور متتابعة يثبت فيها أن الحصان في لحظةٍ ما أثناء عدوه يطير بالفعل من فوق الأرض بالأربع قوائم.

لم يكن “إدوارد” مصورًا بالمعنى المفهوم اليوم، لكنه كان عالمًا في التصوير إن صح القول، لأنه كان مهمومًا بحركة البشر والحيوانات، وكان يدرس هذه الحركة من خلال التصوير الفوتوغرافي، وتحديدًا الحركة الانتقالية، التي ينتقل فيها الكائن من نقطة إلى أخرى، وليس الحركة في المكان مثل تحريك اليد للبشر أو هز الذيل للحيوانات. وعليه، فهو الاختيار الأمثل لحسم رهان مثل هذا.

الراسخ وقتها حول هذا الأمر، لصعوبة رصده بالعين المجردة، هو أن هناك دائمًا قائمًا من القوائم الأربعة للحصان يكون ملامسًا للأرض في أي لحظة من لحظات العدو. سيقوم “إدوارد” بمهمته، ويصور الحصان وهو يجري اثنتي عشرة صورة باستخدام اثنتي عشرة كاميرا وبطريقة مبدعة ومبتكرة، ونجد بالفعل في هذه الصور المتتابعة صورًا للحصان وهو يطير، القوائم الأربعة في الهواء ولا تلامس الأرض. فاز “ليلاند” بالرهان.

وفازت البشرية جميعًا، لأن “إدوارد”، استكمالًا لدراساته وتصويره للحصان وغيره، سيخترع ما سماه “زووبراكسيكوب” zoopraxiscope، وهو جهاز يعرض الصور المتتابعة بشكل يشبه الفيلم، وسيكون هو ملهم صناعة السينما في التاريخ وصاحب أول فيلم صور متحركة في التاريخ【2】.

لكن لا يصح أن نتكلم عن الرهانات دون أن نمر على المكان الأشهر للرهانات في كوكب الأرض. أتصور أن صالات القمار طافت بذهنك الآن، لكنها ليست المقصودة. في الحقيقة، فالبارات هي بيت الرهانات، مزيج التستوستيرون مع الخمر يتسبب في حالة من الاستفزاز والتحدي لا علاج لها سوى الرهان.

حتى أن المهندس الإنجليزي “هيو بيفر” Hugh Beaver، صاحب المنصب المرموق في وزارة الأشغال في أربعينيات القرن الماضي في إنجلترا، ومدير مصنع بيرة “جينيس” Guinness، فطن لهذه الحقيقة من كثرة ما رأى من خلافات واشتباكات عنيفة بين مرتادي البارات. وبعد ما عاين عراكًا شديد الوطأة حول أسرع الطيور البرية، قرر أن يحسم الجدل فابتكر فكرة مذهلة، أن يجمع كل ما هو أسرع وأطول وأضخم وكافة أشكال صيغ المبالغة في كتاب واحد يتجدد سنويًا، وسماه “موسوعة غينيس للأرقام القياسية”.

وهكذا، كلما يبدأ نزاع ورهان بين طرفين؛ يحتكمون إلى الموسوعة فيما اختلفوا فيه، وينتهي الجدل وينتهي العراك.

ونختم بذكر أشهر رهان في تاريخ البارات في العالم. في ٣٠ سبتمبر ١٩٥٦، راهن “توماس فيتسباتريك” Thomas Fitzpatrickأحد الأشخاص من رفقائه في البار أنه يستطيع الوصول إلى البار الذي يجلسون فيه الآن، الواقع في مدينة نيويورك وتحديدًا في مرتفعات واشنطن Washington Heights، قادمًا من مكان سكنه وقتها في تتيربورو Teterboro في نيوجيرسي New Jersey، في أقل من ١٥ دقيقة【3】.

فعندما تحداه رفيقه ورد بأن هذا مستحيل، هنا بدأ التاريخ في فتح غطاء قلمه وكتابة الأحداث التالية. هرع “توماس” إلى نيوجيرسي، لكنه لم يذهب لبيته، وإنما فعل أبعد شيء قد يفكر فيه إنسان عاقل: توجه الساعة الثالثة صباحًا إلى مدرسة تعليم الطيران وسرق منها طائرة، حلق بها تجاه نيويورك وتحديدًا تجاه الشارع الذي فيه البار.

“توماس” يعلم أن رفيقه لا زال في البار، فيحاول الهبوط بالطائرة في ساحة مدرسة جورج واشنطن القريبة من البار، لكنه يتراجع في اللحظة الأخيرة لأنها كانت حالكة الظلام. فيقرر في النهاية الهبوط في الشارع نفسه، الشارع الذي تصطف فيه السيارات على الجانبين، وترتفع فيه أعمدة الإنارة بشكل يجعل الهبوط فيه عملية انتحارية. و”توماس” مخمور كما نعلم، وليس لديه اتصال راديو ولا إضاءة تسمح بهبوط ليلي، كل العوامل ضد الهبوط. لكنه شخص جريء ومغامر كما وصفه أصدقاؤه المقربون، وربما زادت الخمر من إحساسه بالجرأة، فيهبط بالطائرة سيسنا ١٤٠ Cessna 140 ذات المحرك الواحد في منتصف شارع القديس نيكولاس St. Nicholas Street، ليفوز بالرهان【1】.

تبدو القصة وكأن نهايتها عند الفقرة السابقة، والختام بعدها أن “توماس” عاش حياة سعيدة حتى مات عام ٢٠٠٩ عن عمر ٧٩ سنة وسط أولاده وأحفاده. لكن ليست هذه نهاية القصة.

ففي ٥ أكتوبر ١٩٥٨، أي بعد عامين فقط من حادثة الرهان والهبوط المعجزة، يجلس “توماس” في بار آخر قريب من البار السابق، يشرب الخمر مع رفاق جدد، يحكي لهم بفخر وخيلاء عن مهارته في الهبوط بطائرة حقيقية في الشارع خارج البار. فيهنئونه على شجاعته وحرفيته، ما عدا شخص واحد فقط كان يرى أن “توماس” بالتأكيد يكذب بسبب استحالة الأمر. يجن جنون “توماس” ويرد عليه: “هل تراهنني أني أستطيع تكرار الأمر وفي نفس الشارع؟”

يتحرك “توماس” في نفس مسار الرحلة الأولى، فيذهب إلى مطار تتيربورو Teterboro، وتحديدًا إلى مدرسة تتيربورو لتعليم فنون الطيران، ليسرق طائرة سيسنا ١٢٠ Cessna 120 هذه المرة، ويطير بها إلى نيويورك ويهبط بمعجزة جديدة في طريق أمستردام Amsterdam Ave في تمام الثانية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة بعد منتصف الليل.

الحياة شبيهة بهذه الرهانات. كل قرار يتخذه أي إنسان على وجه الأرض به قدر من الغموض والمجهول. هي حقيقة ليست جديدة، لكن بقليل من التأمل نجد أن هذا القدر كبير، وأن العالم كما نعرفه لم يُبنه الإنسان لأغراض وأفكار ورؤى، قد يكون الجزء الأكبر منه هو مجرد… رهان.

شارك هذا الـمقال