هل شعرت يومًا بالاسترخاء والدفء نتيجة سماعك صوتٍ ما، سواء لصديق أو قريب أو حتى صوت مسجّل لفيلم أو قرع تكراري لآلة أو أداة ما؟ في المقابل، كيف تشعر اليوم نتيجة الأصوات المرتفعة وضوضاء المدينة التي قد تصل إلى 85 ديسيبل، ما يسبب فقدان السمع على المدى الطويل؟ هذا التناقض يدفع الكثيرين منا اليوم للعودة إلى منازلهم بعد يوم عمل طويل، والبحث عن طرق للاسترخاء سواء صوتية أو مرئية، وأحد تلك الطرق هي الـASMR، التي توفرها قنوات ومنصات كثيرة على الإنترنت سواء مسموعة أو مرئية، وهو ما يجعل تلك الوسائط أكثر انتشارًا وشهرة يومًا بعد الآخر. لكن ما هي الـASMR؟
تختصر كلمة ASMR ظاهرة تُعرف بـAutonomous Sensory Meridian Response أو “استجابة القنوات الحسية الذاتية”، وهي تصف الإحساس الناتج عن تحفيز ممكن أن يسببه مؤثر مرئي أو سمعي، وتتسبب في بعض الحالات بشعور من الخدر أو الدغدغة تبدأ من الرأس حتى القدمين، وفي النسبة الأغلب من الحالات تؤدي للاسترخاء وأحيانًا النوم. بدأت تلك الوسائط في الانتشار بداية من عام 2007، وأخذت اسمها تحديدًا في عام 2010 مع صانعة المحتوى جينفر ألان، التي بدأت الحركة وأثارت جدالًا كبيرًا حول تلك الأصوات والمؤثرات على وسائط التواصل المختلفة.
في دراسة بالعام 2022 أُجريت على ما يزيد عن ألف مشترك ممن يعانون من الأرق والاكتئاب، وُجد أن تأثير فيديو أو صوت يتبع ظاهرة الـASMR يمكنه أن يساعد في زيادة الاسترخاء وتحسين المزاج العام، حيث تنشط في الدماغ مناطق مسؤولة عن المشاعر والتعاطف، وتعطي تأثيرًا مشابهًا لتأثير إفرازات الدوبامين والإندورفين وغيرها من الهرمونات التي تحسن المزاج. وعلى الرغم من أن الدراسات العلمية في هذا المجال حديثة وقليلة، إلا أنها استطاعت أن تُظهر تأثير الـASMR على العديد من أصحاب الاضطرابات النفسية والعصبية مثل مرضى فرط الحركة ADHD، ومرضى التوحد Autism، والمساعدة في علاج اضطرابات مثل القلق والاكتئاب وحتى الأرق.
وبعيدًا عن الدراسات العلمية والتأثير الفسيولوجي على الدماغ والجسم، فإن ظاهرة الـASMR ناتجة من حركة اجتماعية جاءت كردّة فعل على ثقافة التحفيز المستمر والضوضاء المدينية وحتى الموسيقى الصاخبة الرائجة حتى وقتٍ قريب. فمن أين نشأت تلك الظاهرة؟ وكيف يتم الالتفاف عليها؟
ضد أصوات الخلفية: خلال حياتنا اليومية نجد أنفسنا في أماكن نضطر فيها إلى سماع موسيقى تكرارية وأحيانًا مزعجة بشكل إجباري، مثل: محلات الملابس، البنوك، السوبرماركت، المطاعم وغيرها من الأماكن العامة التي تلجأ إلى تلك الحيلة التسويقية من أجل إبقاء المستهلك متحفزًا ومنعه من الشعور بالملل أو مغادرة المكان. ثقافة الموسيقى الخلفية تلك دفعت مجموعة من النشطاء في إنجلترا، معروفة باسم Freedom from Piped Music، للاحتجاج ضد هذا النوع من الموسيقى. وبدعم من مجموعة من المؤسسات الخيرية، تم رفع تلك الاحتجاجات للمطاعم ثم لمحلات الملابس مثل فروع Marks & Spencer في إنجلترا، والتي قررت تحت ضغط تلك الدعاوى تبني سياسة جديدة في فروعها لتكون خالية من الموسيقى.
اعتمدت المجموعات المحتجة على دراسة لـالمعهد الوطني للسلامة والصحة المهنية، تشير بالأدلة إلى تأثير الضوضاء المستمرة في البيت أو العمل على الصحة. فبحسب تلك الدراسة، تؤدي “الضوضاء البيضاء” إلى ارتفاع مستوى القلق وضغط الدم، نتيجة لارتفاع مستوى الكورتيزول، وهو هرمون مسؤول عن استعادة توازن الجسم بعد تجربة سيئة، بحيث يؤثر هذا الهرمون في مناطق المخ الأمامية المسؤولة عن التخطيط والاستنتاج والتحكم، ويعزز بدلًا منها التصرفات الانفعالية، ما يؤدي في النهاية إلى فقدان الإنسان سلامة التفكير العقلاني والتصرف تبعًا له نتيجة لهذا التحفيز الدائم.
يمتلئ يوتيوب اليوم بقنوات وفيديوهات قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، مثل فيديو لمدة ساعة لفتاة تقرأ قصصًا أو نصوصًا بصوت أقرب إلى الهمهمات، وآخر يكتب كودًا برمجيًا على كيبورد ميكانيكي يصدر أصواتًا مميزة وتكرارية تشبه الآلة الكاتبة، وفيديوهات أخرى لتقطيع الخضراوات واللحوم لتُبرز فيها أصوات السكين وغيرها من أدوات الطبخ بشكل واضح للغاية. تحقق هذه الفيديوهات مشاهدات مليونية تحت وسم ASMR، وتُشكّل ثقافة سمعية معاصرة يستمع إليها الملايين حول العالم بصورة يومية، بديلًا عن ثقافة الاستماع إلى الموسيقى خلال العمل، التي سادت منذ منتصف القرن الماضي، وطالما اعتُبرت وسيلة لتحقيق إنتاجية أعلى. لكن أبحاثًا حديثة تؤكد أن تأثير الموسيقى على الإنتاجية غير واضح بشكل سببي، بل في أحيان كثيرة تتسبب في ارتفاع مستويات القلق والتوتر، خصوصًا مع الموسيقى الصاخبة مثل البوب والراب والميتال وغيرها من الألوان الموسيقية المعاصرة التي تقتبس صخبها من صخب المدينة وتحاول تنظيمه. فتأتي أصوات الـASMR في محاولة للتغلب على الضوضاء اليومية وموسيقى الأماكن العامة، وحتى التيارات الرائجة من الموسيقى اليوم، لتضعنا في حالة مستحقة من الاسترخاء، وأحيانًا الخدر.
أداة أخرى للتسويق: في تقرير بعنوان “فيديوهات الـASMR هي التريند الأكبر على اليوتيوب الذي لم تسمع به”، تشير أليسون موني في عام 2016 إلى أن فيديوهات الـASMR تجاوزت عتبة 5.2 مليون فيديو، ووصل منتجو هذا اللون المرئي والمسموع إلى شرائح واسعة من المستهلكين. ما جعل شركات مثل Apple وIKEA وKFC تعتمد على هذه الأصوات من أجل التسويق لأنفسها وجذب انتباه الجمهور، باستخدام أداة جاءت بالأساس لتقليل التحفيز الدائم، وتقديم ظاهرة مضادة للتأثيرات السلبية للحياة الرقمية التي تقدمها التكنولوجيا (الآلات)، وحتى ضد ضوضاء المدينة في العمل والمدرسة ومراكز التسوق.
هذا يجعلنا نعيد التفكير في كل منتج ASMR باعتباره منتجًا تسويقيًا من نوع ما، ويدفعنا للتأمل في ما نتعرض له يوميًا من مؤثرات خارجية، سواء أصوات أو مشاهد، ومدى تأثير تلك المؤثرات علينا، وعلى قراراتنا، وعلى الأجيال الجديدة التي تبدو أكثر اضطرابًا. فهل نحن في حاجة لتحسين تلك الظروف؟ أم ربما إلى تغييرها تمامًا؟