كيف تقول شيئًا طيبًا دون أن تبدو مُجامِلًا؟ وكيف تُخفف الجو دون أن تفقد طبيعتك؟
في اللحظة التي تقابل فيها شخصًا جديدًا، أو زميلًا لا تعرفه جيدًا، أو صديقًا قديمًا لم تره منذ فترة، تبدأ سلسلة من الحسابات الداخلية: هل أعلّق على مظهره؟ هل أقول كلمة لطيفة؟ هل سيظن أنني أتودد؟ هل أبدو مبالغًا؟ أم أكتفي بالصمت وأبدو باردًا أو متحفّظًا؟ المجاملات البسيطة، رغم صغرها، تشكّل نسيجًا أساسيًا من العلاقات اليومية. لكنها، في ثقافتنا، عالقة غالبًا بين الإفراط المزعج، والتجاهل الجاف. نُربك أنفسنا خوفًا من أن نبدو “لزجين”، فنخسر فرصة للاقتراب، أو لترك أثر طيب، أو لبناء جسور صغيرة من الودّ.
في علم النفس الاجتماعي
تُصنف المجاملة ضمن ما يُعرف بـ Affiliative behavior — أي السلوك الذي يدعم مشاعر القبول والانتماء بين الناس. لكن الباحثة Deborah Tannen، المتخصصة في تحليل اللغة اليومية، تشير إلى أن كثيرًا من الحرج الاجتماعي الذي يسبق المجاملة ناتج عن القلق من النية: هل سأُفهَم كما أريد؟ هل ستُحمَل كلمتي على محمل المبالغة؟ هل سيُساء تأويلها كاهتمام زائد أو مصلحة مخفية؟ لهذا، يُصبح مفتاح المجاملة الحقيقي ليس في مضمونها فقط، بل في طريقة تقديمها، وسياقها، وتناسبها مع طبيعتك الشخصية.
إليك بعض القواعد البسيطة، المجربة، التي تساعد على قول الشيء الطيب… دون توتر:
١. اجعل المجاملة “ملاحظة”، لا “حكمًا”
بدلًا من قول: “واو، إنتي أحلى من أي وقت”، جرب: “لون الفستان مريح جدًا، بيليق عليك.” الفرق دقيق لكن مهم. الملاحظة تُشعر الآخر بأنك رأيته، أما الحكم المطلق فقد يُربكه أو يُشعره أنه موضوع تقييم.
٢. ركّز على التفاصيل لا العموميات
قولك: “شكلك متغيّر” قد يُفتح على أكثر من تأويل، لكن قولك: “الستايل الجديد في شعرك ظريف جدًا” يضبط النبرة. كلما كانت المجاملة محددة، كلما بدت صادقة وغير مؤدلجة.
٣. لا تُكرّر المجاملة إلا إذا أردت إلغاء تأثيرها
واحدة تكفي. كلما كرّرت نفس العبارة، بدأت تفقد معناها، وتتحوّل إلى تصرف دفاعي. قل الكلمة، وامضِ بثقة إلى الحديث أو الفعل الذي بعدها.
٤. لا تفصّل إن لم يُطلب منك
لو قلت لصديق: “عرضك كان واثق جدًا”، ثم بدأ يتهرّب أو يغيّر الموضوع، لا تُصرّ على تحليل “لماذا أعجبك”. المجاملة ليست فتح موضوع… بل تثبيت طيب للجو، ثم انسحاب سلس.
٥. جرّب المجاملة السلوكية… لا الكلامية فقط
الابتسامة حين يدخل شخص إلى الغرفة. ترك الكرسي في مكان مريح. السؤال عن شيء شخصي صغير بتلقائية. كلها مجاملات هادئة، لا تُثقل اللحظة، لكنها تبني إحساسًا غير مرئي بالقبول.
في الثقافة العربية
نبالغ أحيانًا في المجاملة حتى تفقد صدقها. ونُحجم أحيانًا عن الكلمة الطيبة خوفًا من أن نُتّهم بشيء لم نقصده. لكن بين هذين الحدين، توجد مساحة إنسانية هادئة، تسمح بأن نقول لمن حولنا: “أنا أراك، وأحترمك، وأريد أن أُشعرك بشيء طيب… دون أن أطلب شيئًا في المقابل.”
.
المجاملة الجيدة لا تُقال لتُدهش، بل لتُطمئن. وليس عليك أن تكون شاعرًا، يكفي أن تُصيب اللحظة، وأن تكون الكلمة جزءًا طبيعيًا من حضورك، لا عبئًا إضافيًا على لسانك. قلها، بهدوء، ثم دعها تعمل عملها… وستفاجأ كيف أن جملة واحدة قد تُريح شخصًا ليومٍ كامل.