“لأنه بين الحقيقة وبيننا، تكمن العواطف”
الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا أليكسيفيتش
علمت سالي عند لحظة بعينها حينما راقبت دموعها تسيل إلى الحد الذي أغرق قلبها أن عليها أن تواجه ما أنكرته، تلك الغمامة الرقيقة التي غشت علاقتها بمن تحب، وأبقتها دون مسمى، تلك الأسئلة التي حارت في الإجابة عنها ثم أهملتها كانت لتجنبها أطنانًا من الألم، فلم تكن سالي في الحقيقة سوى في خضام ما درج تسميته بـ “situationship” أو بالأحرى علاقة بلا معالم.
في يناير 2006 ظهر طيف تلك الكلمة على موقع قاموس أوربان المعني بجمع التعريفات المتداولة بين الناس في الحياة اليومية ليعرفها بـ “كل علاقة مبهمة تتسم بصراع شخصي أو أكثر لم يُحل ويُخلط بينه وبين المواعدة”. بعد سنوات ناقشت الكاتبة كارينا هسيه المصطلح بوصفه منطبقًا على العلاقات الحديثة التي يغيب فيها الوضوح ويتشارك فيها الطرفان مساحات رمادية تقع بين الصداقة والرومانسية دون مسميات أو قيود، لا سيما مع ازدياد الإقبال على تطبيقات المواعدة ووفرة الخيارات هنالك.
يجمع باحثون على أن المشاعر هي ما يميز تلك الرابطة التي قد يختارها البعض طواعية لأسباب متعددة كـ الخوف من الالتزام وتلافي الضغوطات أو عند خروجهم من تجربة قاسية أو لرغبتهم في الاستمتاع فحسب. وقد تلبي العلاقة بالفعل احتياجاتهم في أوضاعهم الراهنة مبددة ظلال الوحدة التي خيمت عليهم، لكن ذلك لن يدوم على الأرجح إلا لزمن قصير.
تكمن المعضلة عند اختلال توقعات أحد الطرفين، وإيلائها اهتمامًا صادقًا لا يُلقى له بال، كأن تكن سالي في القصة السابقة مشاعر للطرف الآخر، دون التصريح بها أو تقر بها في مرحلة ما فتصطدم بعدم رغبة الطرف الثاني بإضفاء جدية على العلاقة. وفي سيناريوهات أخرى قد يختل يقينهاويرتبك فتخشى الانفصال والبحث عن علاقة مع شخص يشاركها ما تريد متشبثة بأمل هزيل في وقوع تغيير ما.
يصف خبراء نفسيون تلك الحالة في العلاقات العاطفية بـ منطقة راحة زائفة ومؤقتة تعوزها الحميمية الحقيقية والضعف، ترتضي فيها بأنصاف الأمور، كالاتصالات والمواعيد غير المنسقة وربما المتباعدة، والوقوف في نقطة مجمدة لا تلتقي فيها مع الدوائر الاجتماعية للطرف الآخر إلا بشكل نادر، وتلتبس فيها الاحتياجات ويتجنب الحديث عن مستقبل.
فسر عالم الاجتماع زيجمونت باومان في كتابه “الحب السائل” تلك النزعة لدى الإنسان المعاصر للتحرر من الروابط التي تستعصي على القطع بقوله: “عليها أن تظل فضفاضة بحيث يمكن فكها مرة أخرى دون تردد عندما تتغير الظروف”. تلك الهشاشة المخيفة التي تعانيها الروابط الإنسانية، والإحساس بعدم الأمان الذي تبثه الروابط، والرغبات المتصارعة التي يدفعها ذلك الإحساس إلى إحكام هذه الروابط مع إبقائها على وسعها في آن.
ينظر باومان لمن هم في تلك العلاقات على أنهم “يائسون بعدما تركوا لحيلتهم، ومتوجسون من نبذهم واستبدالهم، ومشتاقون إلى الأمن، ومستميتون في طلب الارتباط، لكنهم حذرون منه، ولا سيما من الدائم والأبدي، لخشيتهم أن يجلب ذلك الارتباط أعباء ويسبب ضغوطات لا طاقة لهم بها، وهم في غنى عنها، فتُقيد الحرية التي يتوقون إليها، فيتلذذون بألذ ما في العلاقة ويتركون أجزائها المرة الصعبة، ويدفعون العلاقة إلى تقويتهم لا تعجيزهم، وإلى إشباع الرغبات لا إثقالهم”.
هكذا لم يسلم الحب من أن يتحول في ظل زمن استهلاكي تُشبع فيه الرغبات سريعًا دون جهد إلى محض تجربة ووعد واهم يتمنى الناس في قرارتهم أن يكون حقيقيًا. ليخلص باومان أن الرغبة والحب لهما مقاصد متعارضة: فالحب شبكة تنسج من أجل الأبدية، وأما الرغبة فوسيلة للهروب من الأعباء الثقيلة التي يتطلبها نسج الشباك، فالحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، وأما الرغبة بطبيعتها فتهرب من قيود الحب.
ولكن ما الضير في أن يتشبث المرء بما هو آني وبين يديه، دون أن يُلقي بالًا بغياب الأطر؟ من أين تأتي الحاجة الماسة لتعريف الأشياء؟ تشير عالمة النفس سوزان ألبرز بأن أدمغتنا تميل إلى التفكير بأسلوبي الصواب والخطأ، وبمعنى أدق بـ الأبيض والأسود، إذ تُفرز أدمغتنا عند اقترابنا ممن نحب هرمون الأوكسيتوسين أو هرمون الحب فور العناق أو التلامس، ما يعزز الترابط ويشعر بالطمأنينة، لذا فإن التواجد وسط الألوان الباهتة سرعان ما يُمسي مبعثًا للقلق.
وعليه، تصبح العلاقة واضحة فقط حين نمنحها تعريفًا ومعنى ينساب ضمن إطار بعينه. لا يعني ذلك أن وجودها ضمان بالضرورة بسريان كفة الحب كما هو مرجح لها، لكنه قد يغدو خطوة ضرورية لتلافي ما هو غامض وتلمس طريقك وسط ظلام مخيم، لذا تقصينا نصائح خبراء نفسيينحال علقنا في تلك المساحات حول ما قد نفعله:
نتحرى الصدق مع أنفسنا ونتشبث بما نريده حقًا من أي علاقة لا بما نأمله.
واجه ما تشعر به، دون مراوغة أو هروب، ما الذي يتملكك في حضوره، هل يغمرك الأمان أم التوتر؟ امنح مشاعرك مسميات ودوِّن ما يراودك ولو بشكل عشوائي، سواء كان ذلك “تعلق، تدني احترام الذات، شكوك حول مدى استحقاقك للحب، فتور”، واكتب قائمة بمحاسن العلاقة ومساوئها.
البوح بما يشغلنا ورسم حدود صارمة لما تريد دون ضغوط، قبل منح الآخر مساحة للتعبير وتقليب الأمر.
قبول ما يفضي إليه الحوار دون تنازل عما تؤمن به، حتى وإن بدا محبطًا.
اتخذ مسافة آمنة بينك وبين الآخر حال تنبؤك باختلاف طرقكما عاجلًا أم آجلًا.
ضع في اعتبارك أنك كلما أطلت البقاء في تلك الحالة كلما تثاقلت خطاك.
خذ الأمر بروية، وابتعد تدريجيًا
تأمل فيما يمكنك تجنبه مستقبلًا عند خوض علاقة جديدة
أحط نفسك بمصادر دعم وامنح نفسك فترة للتعافي
في علاقة صحية، لن تتطلع إلى الحد الممكن من التواصل، لن تتحجر نظراتك، وسيحيطك الدفء من كل جانب. ستصدق أنك أشد بهاءً من أن تقبع في مناطق لا تضيء فيها كما ينبغي.