تأملات في الحب حين لا يبدو في المتناول
ثمة امرأة أعرفها، لا لأنني التقيتها، بل لأنني فكرت فيها كثيرًا. امرأة لا يربطني بها شيء ملموس، سوى خيط خفيف من الانتباه. شيء في حضورها يجعلني أرتّب أفكاري، وأُطيل النظر إلى الداخل. ليست ملاكًا، ولا أسطورة، لكنها تبدو بعيدة… بالقدر الذي يجعلني أتعثر بلغتي حين أتخيل الحديث معها.
ليست البُعد هنا مسافةً مادية، بل نوعٌ من الإحساس بأن بيني وبينها فرق في الإيقاع، في الخبرة، في النضج، وربما في الحظ. هي تبدو ممن يعرفن طريقهن جيدًا. وأنا… أبدو لمن يعرفني متأخرًا قليلاً عن كل شيء.
لماذا تبدو بعض النساء أبعد من غيرهن؟
ربما لأنها تملك شيئًا لا أملكه بعد: طمأنينة، حضور واضح، قدرة على رفض ما لا يناسبها دون صراع داخلي. وربما لأنها لا تُرسل إشارات مربكة، ولا تُمارس تلميحات باهتة. الوضوح في المرأة قد يبدو ساحرًا، لكنه أيضًا مرعب لرجل لم يتعلم بعد كيف يكون واضحًا مع نفسه.
المرأة البعيدة هي التي تشعر أنك تحتاج أن تصبح أكثر ثباتًا لتقترب منها. كأنها مرآة لنسخة لم تكتمل بعد فيك. وهذا أمر جميل… وموجع في آن واحد.
التردد… مرآة الخوف من الرفض
أفكر كثيرًا في الاقتراب. ثم أتراجع. أقول: ماذا سأقول؟ وماذا لو بدا إعجابي ساذجًا؟ وماذا لو لم ترَ فيّ شيئًا؟
أعرف أن هذه الأسئلة ليست عنها، بل عني. عن تاريخ قديم من خيبات صغيرة جعلتني أظن أن كل امرأة إعجابي بها هو مقدمة لانكفاء جديد.
لكنني، في لحظة صفاء، أعترف: ربما المرأة ليست بعيدة حقًا، بل أنا الذي لا أقترب بما يكفي.
الرجولة الهادئة… هل تخونني أم تحميني؟
يقال لنا إن الرجولة تعني أن تبادر، أن تُظهر رغبتك دون خوف، أن تقتنص، أن ترفع صوتك بالحضور.
لكنني لم أكن ذلك الرجل يومًا.
أنا أقترب بتؤدة.
أحب بصمت لا يُستعرض.
وأُعجب بامرأة لا أريد أن “أحصل عليها”، بل أن أفهمها.
هذا النمط من الرجولة — الهادئة، المتأملة، المترددة أحيانًا — ليس دائمًا ما يُكافَأ في القصص، لكنه ما يشبهني.
وربما نعم، يخسر أحيانًا. لأن بعض النساء لا يسمعن النداء الخافت، ولا ينتظرن طويلاً رجلًا يتأمل أكثر مما يتكلم.
لكن السؤال ليس: هل هي رجولة “رابحة”؟
بل: هل هي رجولة صادقة؟
أنا لا أهرب من الاقتراب، لكنني لا أستعجل الخطوة.
ولا أعد بما لا أملك.
ولا أرفع صوتي لأغطي هشاشتي.
بل أحاول أن أقترب، حين أقترب، بكامل بطء القلب.
الحب ليس مغامرة… بل دعوة للصدق
في كتاب On Love لألان دو بوتون، يصف الكاتب كيف أن الرجل أحيانًا يعجب بامرأة لأنه يرى فيها خلاصًا من نفسه القديمة. لكنه ينسى أن الحب الحقيقي لا يمنحك خلاصًا… بل يمنحك مرآة. فإن كنت ترى نفسك صغيرًا أمامها، فالمشكلة ليست فيها، بل في مكانك الذي لم تتحرك منه بعد.
الحب لا يتطلب أن تكون كاملًا، لكنه يتطلب منك شجاعة الظهور كما أنت.
وماذا بعد؟ هل أقترب؟
لست أملك وصفة. لكنني أعرف ما لا يصلح: الانتظار.
الانتظار أن يحدث شيء خارجي، أو أن تختصر هي الطريق، أو أن يتغيّر شيء في الزمن.
في العلاقات، كما في كل شيء مهم، الخطوة الأولى ليست إعلان حب… بل إعلان وجود.
أن أُريها أنني أراها. أن أتحدث بلغة تشبهني. لا تلميح، ولا استعراض. فقط حضور واضح يقول:
“أنا هنا، ولا أدّعي أنك لي… لكنني أراك.”
ربما لا تكون المرأة فعلاً بعيدة.
ربما تنتظر فقط من يعامل إعجابه بها بهدوء لا بخوف، وبصدق لا بخطة، وباقتراب لا يطلب الامتلاك.
.
هل أحبها؟ لا أعرف بعد.
لكنني أعرف أنها المرأة التي تجعلني أريد أن أكون أفضل — لا من أجلها فقط، بل لأستحق مكانًا في عالمها.
وإن لم يحدث شيء؟
يكفيني أنني، مرة، أحببت شخصًا جعلني أقترب من نفسي أكثر.