تأملات عقلية وعاطفية في علاقات العمل الرمادية
نقضي في بيئات العمل عدد ساعات يفوق ما نقضيه مع عائلاتنا، أصدقائنا، أو حتى أنفسنا. نظريًا، علاقات العمل يفترض أن تكون “وظيفية”، قائمة على المهام، الانضباط، والاحتراف. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فهذه العلاقات، رغم رسمية شكلها، تمتد خيوطها إلى الداخل: إلى مشاعرنا، حساسياتنا، وحدودنا المضطربة بين “أنا الموظف” و”أنا الإنسان”. كيف يمكن لعلاقة يومية، متكررة، تشاركنا فيها التفاصيل والضغوط والانتصارات الصغيرة، ألا تترك أثرًا؟ ولماذا، رغم كل ذلك، يُقال لنا: “ابقَ على مسافة. لا تتعلق. لا تخلط المهني بالشخصي”؟ هل نحن مطالبون بالانفصال العاطفي عن علاقات تستهلك منا الوقت والجهد والاهتمام؟
نموذج “الوظيفية المحايدة”: وهم أم واقعية؟
في علم النفس التنظيمي، يُشار إلى هذه الإشكالية تحت مفهوم emotional labor، وهو الجهد النفسي المطلوب للحفاظ على سلوك مهني في بيئة عمل تتطلب تفاعلًا إنسانيًا. الموظف لا يُطلب منه إنجاز المهمة فقط، بل ضبط مشاعره، وتهذيب ردوده، والتوازن بين الانخراط والحياد. هذا النمط قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ التعب العاطفي (emotional exhaustion)، الذي يحدث عندما يصبح على المرء أن يُمارس “التحكم الانفعالي” باستمرار، ما ينتج عنه احتراق داخلي وتبلد تدريجي في المشاعر. أظهرت دراسة من جامعة Yale (2018) أن الموظفين الذين يضطرون إلى كبت مشاعرهم في بيئات العمل يعانون من انخفاض في مستويات الرضا، وارتفاع في القلق، حتى لو لم يُظهروا ذلك خارجيًا. بمعنى آخر: الحياد المبالغ فيه مكلف نفسيًا.
مساحة غير مصنّفة: لا صداقة… ولا غربة
الروائية إلينور كاتون تصف العمل في مكاتب الشركات بأنه “مسرحية يومية نؤديها أمام جمهور يعرف دوره جيدًا، لكنه لا يريد أن يتورط في النص”. نحن نشارك الحياة مع أشخاص لا نسمّيهم أصدقاء، لكننا نشتاق إليهم إذا غابوا، وننزعج إذا تجاهلونا، ونُحمّل كلماتهم أكثر مما ينبغي أحيانًا. إنهم في المنتصف، في مكان لا نملك له اسمًا واضحًا. زميل دعمك في لحظة ضعف، مدير آمن بك حين شككت بنفسك، موظف جديد تراه أقرب إليك من أصدقاء سنوات… كيف يمكنك أن تضع كل هذا تحت لافتة “العلاقات المهنية” وتكمل اليوم؟
حين تتجاوز العلاقة حدودها
الخطورة لا تكون في العلاقات السطحية، بل في العلاقات المتشابكة بلا وعي. حين تتعلق بأحد في العمل وتنسى أنه قد يغادر غدًا، أو حين تتوقع دعمًا إنسانيًا من مدير لا يرى العلاقة إلا بوصفها وظيفة، تصطدم بجدار بارد. ويحدث ما يُعرف بـ “relational breach”: صدمة العلاقة عندما تكتشف أن الرابطة التي ظننتها متينة، لم تكن إلا اتفاقًا عمليًا انتهت صلاحيته. هذا الخلل يترك “ذيولًا نفسية”: شعور بالخذلان، شك في الذات، وأحيانًا انسحاب تدريجي من العلاقات الجديدة خوفًا من التكرار.
ماذا يقول الفلاسفة؟
الفيلسوف الألماني مارتن بوبر قسّم العلاقات الإنسانية إلى نوعين: • “أنا – أنت”: علاقة متبادلة فيها حضور إنساني حقيقي. • “أنا – هو”: علاقة وظيفية، يُعامل فيها الآخر كوسيلة. بوبر يقول إننا لا نستطيع أن نحيا دائمًا في “أنا – أنت”، لكن لا يجب أن نقضي حياتنا كلها في “أنا – هو” أيضًا. وهنا تأتي صعوبة علاقات العمل: إنها تتطلب منّا أداء “أنا – أنت” داخل إطار “أنا – هو”.
نحو توازن جديد
ربما الحل ليس في الانفصال الكامل، ولا في التعلق المطلق، بل في بناء مهارة نادرة: التعاطف من دون انغماس. الوضوح من دون برود. الحضور من دون التعلق.
بعض الأدوات الممكنة:
• وضع تعريف شخصي للعلاقة: من المهم أن تسأل نفسك: ما حدود هذه العلاقة؟ أين أبدأ فيها وأين أنتهي؟
• المشاركة الانتقائية: شارك مشاعرك، لكن لا تسلّم مفاتيحك النفسية بسهولة.
• بناء هوية خارج العمل: لا تجعل العمل هو مسرحك الوحيد. احمل علاقاتك المتينة في أماكن أخرى، كي لا تطلب من المكتب ما لا يمكن أن يمنحه.
نحن لا نخطئ حين نشعر. الخطأ الحقيقي أن نتعامل مع مشاعرنا وكأنها عيب في النظام. علاقات العمل لا تحتاج أن تكون باردة. لكنها تحتاج أن تكون واضحة، مرنة، وإنسانية… دون أن تتورّط في أن تصبح مركز ثقلك العاطفي. الاقتراب ممكن، لكن بوعي. والحذر مطلوب، لا بدافع الخوف، بل بدافع الصون.
والمسافة؟ ليست جدارًا، بل مساحة تنفس، نحتاجها لنُكمل الطريق دون أن نفقد أنفسنا في النص.