دليل شخصي للعيش وسط مدينة لا تنام… ولا تصمت
القاهرة ليست مكانًا فقط، بل مزاج، وإيقاع، وصوت دائم في خلفية حياتك. مدينة لا تُطفئ أضواءها، ولا تهدأ طرقاتها، ولا تتوقف عن اختبار أعصابك كل صباح. ومع ذلك، حين تغيب عنها — ولو أيامًا — تكتشف أن شيئًا منك ظل فيها. وأنك، رغم كل الشكوى، تحبها بطريقة لا تُفصح عنها بسهولة. تشير دراسات علم النفس الحضري إلى أن المدن الكبرى تولد حالة من “التحفيز الزائد” المستمر، مما يرفع مستويات التوتر ويُصعّب على الدماغ الدخول في حالات الهدوء العميق (APA, 2021).
المدينة التي لا تعتذر
القاهرة لا تعتذر. لا عن الزحمة، ولا عن الضوضاء، ولا عن المفاجآت الصغيرة التي تقطع عليك جدولك دون إنذار. تستيقظ وفي بالك خطة واضحة: ستفعل كذا وكذا. لكن المدينة تقول لك: “سنرى”. ربما ستعلق ساعة في الطريق. ربما سيتعطل المترو. ربما سيتغيّر كل شيء بسبب موكب، أو زفاف شعبي، أو أمطار نادرة. ومع ذلك، القاهرة تُكافئ من يصبر عليها. تعطيه لحظات صغيرة لا توجد في مدينة أخرى. وجد باحثون في جامعة ميشيغان أن إحساس الفرد بالتحكم في يومه – حتى لو جزئيًا – يقلل من التوتر ويحسن من مزاجه العام بنسبة تصل إلى 30%.
كيف تتغلب على إرهاق المدينة؟
أن تبدأ نهارك مبكرًا… لا لتلحق، بل لتسبقها. الساعة الثامنة صباحًا في القاهرة تختلف تمامًا عن السابعة. في السابعة، المدينة ما زالت تُفكّك نفسها. في الثامنة، تبدأ في الانقضاض. أن تستيقظ مبكرًا يعني أن تبدأ يومك على إيقاعك أنت، لا إيقاعها. أن تمشي نصف ساعة قبل أن تمشيك هي طوال اليوم. عالم الأعصاب أندرو هوبرمان يؤكد أن ضوء الصباح الطبيعي في أول ساعة من اليوم يساهم في إعادة ضبط الساعة البيولوجية وتحسين جودة النوم والانتباه.
أن تختار أماكن صغيرة وسط المدينة الكبيرة
القاهرة تُرهق من يحاول السيطرة عليها دفعة واحدة. لكنها تُعطي من يختار قطعة منها — مقهى، مكتبة، حديقة، شارع جانبي. اجعل لك “جيبًا صغيرًا” في المدينة: مكانًا تعرفه، وتُعرف فيه. مكانًا تقول فيه: “هنا لا شيء يُفاجئني”. هنا، ألتقط أنفاسي. في علم النفس البيئي، تُسمى هذه المساحات “restorative spaces” — أماكن تخلق إحساسًا بالألفة والسيطرة وسط الفوضى العامة.
أن تستثمر في الطريق
في القاهرة، الطريق ليس وسيلة… بل حالة. اقبل أن جزءًا من حياتك سيُقضى في المواصلات. ولا تحوّله إلى مساحة مقاومة دائمة. الطريق وقتٌ للقراءة، أو للاستماع، أو للصمت. لا تتركه فراغًا. لكن لا تملأه بالضيق. في دراسة نُشرت بمجلة Transportation Research، تبين أن تحويل الوقت الضائع في التنقل إلى وقت شخصي (بالاستماع أو القراءة) يُقلل من استجابات التوتر اليومية بنسبة ملحوظة.
ما الذي يمكن أن تحبه في القاهرة رغم كل شيء؟
العشوائية المنظمة. القاهرة مدينة مفككة بشكل غريب… لكنها تعمل. شارع لا يُشبه الذي قبله، لكنك تجد طريقك. حي يبدو مرتجلًا، لكنه مليء بالحياة. هذا التناقض لا يصلح للدراسة الأكاديمية، لكنه يصلح للعيش. الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي سيرتو يرى أن سكان المدن الكبرى “يرتجلون” طريقة عيشهم اليومية كما يرتجل العازفون مقطوعتهم… كلٌ حسب إيقاعه.
الحضور البشري
في المدن النظيفة والمرتبة، الناس نادرًا ما يلاحظونك. في القاهرة، إن ضللت طريقك، هناك خمسون شخصًا سيقترحون عليك خمسين طريقًا. ربما هذا مزعج أحيانًا، لكنه دليل أن أحدًا ما ما زال يرى أنك موجود. يشير علم الاجتماع الحضري إلى أن “الاحتكاك الاجتماعي” في المدن غير المخططة يعزز الشعور بالانتماء، أكثر من المدن المعزولة والمنظمة رقميًا.
التفاصيل الصغيرة وسط الفوضى
صوت بائع في الصباح. طفل يضحك في حديقة متربة. عبارة مكتوبة بخط يد فوق جدار. كوب شاي على الرصيف. هذه التفاصيل، رغم بساطتها، تجعلك تشعر بأنك تعيش، لا فقط تنجو.
العيش مع المدينة… لا ضدها
لا تحاول أن “تهذّب” القاهرة. ولا أن تتعامل معها كمدينة مثالية خذلتك. بل كرفيقة مرهقة، صعبة الطباع، لكنها صادقة. أن تتصالح مع القاهرة لا يعني أن تتقبل كل عيوبها. بل يعني أن تجد طريقة للعيش فيها دون أن تفقد نفسك. أن تختار ما تراه، وما تتجاهله. أن تخلق لنفسك إيقاعًا وسط ضجيجها. تقول الكاتبة جيني أوديل في كتابها How to Do Nothing:
“النجاة الحقيقية لا تعني الانسحاب الكامل… بل القدرة على إعادة توجيه انتباهك داخل فوضى العالم”.
العيش في القاهرة يشبه العيش داخل رواية لم تُكتب بعد. كل يوم فيها مشهد جديد، وكل لحظة احتمال. لكنك، إن عرفت كيف تنظر — لا كيف تتذمر فقط — ستجد أن المدينة، بكل ما فيها من صخب، تمنحك شيئًا نادرًا: أن لا تشعر أنك مُعاد تدويرك. بل أنك، رغم كل شيء… حيّ.