حين تكون كل الأدوار أنت، وكل الضغط عليك
في الشركات الصغيرة، القائد لا يملك ترف الانفصال. لا غرفة زجاجية، لا مساعد شخصي، لا هيكل تحتي يخفف الضغط. هو المُقرِّر، والمُنفّذ، والمُحاسب، والمُلام حين لا تسير الأمور كما يجب. وفي هذا التراكب، يتسلل الإرهاق دون إعلان: لا بألم في العضلات، بل بتراجع الحماسة، وبشعور خفي أن المشروع الذي بدأته عن شغف… صار يستهلكك.
الإرهاق ليس “تعبًا عابرًا”، بل حالة نفسية وفسيولوجية موثّقة
وفقًا لتعريف منظمة الصحة العالمية، الإرهاق المهني أو الـ Burnout هو: “حالة من الإجهاد المزمن في بيئة العمل، لم تتم إدارته بنجاح، ويتميز بثلاثة أبعاد: الشعور بالإرهاق، التباعد الذهني عن العمل، وانخفاض الكفاءة المهنية.” أما دراسة نُشرت في Harvard Business Review، فأظهرت أن رواد الأعمال معرضون للإرهاق بنسبة 30% أكثر من غيرهم، خاصة حين يكون المشروع صغيرًا، لا توجد فيه بنية دعم واضحة. لأن العبء النفسي هنا لا يرتبط فقط بـ”العمل”، بل بـ”الهوية”. المشروع ليس مجرد مهمة… بل هو أنت. وكل فشل فيه، يُشعرك كأنك أنت من فشل.
كيف يحدث الإرهاق في الشركات الصغيرة تحديدًا؟
١. غياب الحدود بين الشخصي والمهني: العمل يمتد للبيت. الرسائل لا تتوقف. كل فكرة جديدة تأخذ مكانها في ذهنك حتى قبل النوم.
٢. الشعور بالوحدة في القرار: لا أحد يشاركك المسؤولية كاملة. كل قرار يبدو وكأنه يحتاج موافقة داخلية من عشر نسخ من نفسك.
٣. ضغط التوقعات الذاتية: ليس فقط من الآخرين، بل منك أنت. أن تكون مثاليًا، ملهمًا، حاضرًا، منجزًا، متحكمًا.
٤. تآكل الشغف في الروتين: تبدأ بشغف، لكن فجأة تجد نفسك تقضي الأيام في إطفاء حرائق، لا في بناء شيء جديد.
ما الذي يمكن فعله؟ (استنادًا إلى الأدبيات العلمية والممارسات الناجحة)
١. فصّل نفسك عن مشروعك — تدريجيًا:
في كتاب The E-Myth Revisited لمايكل جربر، يُحذر المؤلف من الوقوع في فخ “العمل داخل المشروع” لا “عليه”. أي أن تظل حبيس التنفيذ بدلًا من أن تبني النظام. ابدأ بسؤال بسيط: ما الشيء الذي أفعله يوميًا، ويمكن لغيري أن يتعلمه؟ ثم درّب عليه أحدهم. خطوة واحدة تزيح عنك حملاً لا تراه.
٢. خصص وقتًا “مقدسًا” للانفصال:
دراسة من Stanford University تُظهر أن الإنتاجية تنخفض بشكل حاد بعد العمل المتواصل لأكثر من 50 ساعة أسبوعيًا. وهذا الانخفاض لا يمكن تعويضه بالنوايا الطيبة أو الكافيين. الانفصال عن العمل ليس رفاهية، بل صيانة لدماغك التنفيذي. ساعة واحدة بلا شاشات. مساء واحد بلا مواعيد. هذه ليست إجازة… بل استعادة لنفسك.
٣. أعد تعريف النجاح بشكل دوري:
في دراسة لـ Gallup، وُجد أن الشعور بالإرهاق يرتبط أكثر بـ”عدم وضوح ما هو كافٍ” أكثر من حجم العمل نفسه. أي أن الإنسان ينهك لأنه لا يعرف متى يقول: “هذا يكفي”. ضع معاييرك بوضوح: هل تريد نموًا بطيئًا لكن مستقرًا؟ هل هدفك هو التأثير لا التوسع؟ كل وضوح في التعريف، هو تقليل للضغط الداخلي.
٤. ابنِ دائرة دعم حقيقية (ولو شخص واحد): لا تحتاج قسمًا للموارد البشرية لتشعر أنك لست وحدك. قد يكون زميلًا، صديقًا، أو حتى مستشارًا خارجيًا. المهم أن تملك مكانًا آمنًا للكلام، دون أن تبدو كأنك تشكو، ودون خوف من فقدان السلطة. في كتاب Leaders Eat Lastلسيمون سينك، يشدد المؤلف على أن القيادة لا تعني العزلة، بل القدرة على خلق بيئة يشعر فيها القائد أيضًا بالأمان.
لن تكون القيادة في شركة صغيرة سهلة. لكنها — إن تم خوضها بوعي — قد تكون شكلًا من أشكال النضج الداخلي. أن تتعلم متى تنسحب خطوة، متى تقول لا، متى تُفوض دون أن تخاف، ومتى تذكّر نفسك أن المشروع الذي تقوده… لن ينجو إن خسرت نفسك في الطريق. فالقيادة ليست أن تمشي أولًا، بل أن تصل وأنت واقف — لا مُنهار.