⁠الخامسة عصرًا
٦٠٦ كلمة
٠ تعليق

تأملات شخصية في التشتت والبحث عن الانتباه


أحيانًا، أشعر أن رأسي غرفة بلا أبواب. يدخل إليها كل شيء: صوت بعيد، فكرة عابرة، ذكرى قديمة، سؤال غير مكتمل. لا أعرف إن كان هذا الوصف دقيقًا، لكنه الأقرب لما أعيشه. في لحظة ما، أكون أقرأ، ثم أتذكر شيئًا يجب أن أفعله، ثم يجرّني ذلك لرسالة نسيت الرد عليها، ثم فجأة أجدني أكتب قائمة مشتريات الأسبوع. كل ذلك، وأنا ما زلت ممسكًا بالكتاب نفسه.

في طفولتي، كان يُنظر إلي باعتباري “شارد الذهن”، “غير مركز”، “يبدأ ولا يُنهي”. ولم أكن أفهم ما المقصود بذلك بدقة، لكني كنت أعرف أن هناك شيئًا في داخلي لا يعمل بنفس طريقة الآخرين. كنت أظن أنني وحدي من يحمل هذا الرأس المشتعل. إلى أن صادفت مصطلحًا في أحد الكتب: اضطراب نقص الانتباه ADD. قرأت عنه كما يقرأ المرء عن شخصية تشبهه في رواية.

كان أول شعور لي هو: الطمأنينة. أن هناك اسمًا لما أعيشه. أنني لست غريبًا أو متكاسلًا، بل فقط أعمل بطريقة مختلفة. كنت أتصور أن التركيز يشبه مصباحًا قويًا يُسلَّط على مهمة واحدة، لكن في حالتي، بدا المصباح وكأنه كشاف ملون يتحرك بسرعة بين الأشياء.

لكن، مع الاسم، جاءت أسئلة أخرى: كيف يمكنني أن أعيش براحة أكثر مع هذا الرأس؟ كيف أُنجز دون أن أستهلك نفسي؟ كيف أحمي نفسي من الشعور المستمر بالذنب والخذلان؟

بدأتُ من البسيط: من قبول الفكرة. لا كضعف، بل كطبيعة. في كتاب Driven to Distraction، يصف الطبيب إدوارد هالويل هذا النوع من العقول بـ**”العقول السريعة”**، التي تحتاج إلى بيئة منظمة كي تعمل، لا إلى تأنيب دائم. وجدت عزاءً في هذه الفكرة. أن الحل ليس في “تغيير من أنا”، بل في فهم كيف أتحرك داخل عالمي، دون أن أُنهك نفسي.

إحدى الأدوات التي ساعدتني كانت تقنية “بومودورو”: ٢٥ دقيقة من العمل الكامل، ثم خمس دقائق من الراحة. ليست عصًا سحرية، لكنها نافذة للهواء النقي وسط زحام الأفكار. في تلك الدقائق، أُدرب عقلي على الإبطاء، على أن يتنفس داخل مهمة واحدة، ولو مؤقتًا.

تعلمت أيضًا أن أعتمد على المحفزات الخارجية. لا أثق بذاكرتي، فأستعين بدفتر، بتطبيق، بمنبّه. لست بحاجة لأن أكون “إنسانًا كاملًا” كي أُنجز، بل فقط أن أخلق نظامًا يدعمني. كثيرًا ما أعود إلى عبارة قرأتها مرة:

“الذكاء ليس أن تتذكر كل شيء، بل أن تعرف أين تضع ما تنساه.”

في لحظات أخرى، كنت أراقب كيف يتحول التشتت من عائق إلى باب. الأفكار التي تقفز بلا مقدمات تقودني أحيانًا إلى روابط جديدة، أفكار غير متوقعة، طرق لا يسلكها العقل المرتب. الكاتب أوليفر ساكس كان يقول إن “العقل المختلف يرى تفاصيل لا يلتفت إليها العقل المعتاد.” بدأت أرى أن رأسي ليس مجرد مصدر تعب، بل مصدر غنى أيضًا، إذا ما عرفت كيف أستمع له بلطف.

الرياضة ساعدتني أيضًا. لا أتحدث عن ماراثون أو حمية صارمة. بل عن المشي. عشر دقائق، أحيانًا أقل. ثمة دراسات كثيرة – منها ما نشر في مجلة Neuropsychology – تؤكد أن النشاط البدني يزيد من تركيز المصابين بـ ADD، ويخفض من مستويات القلق. لكن بعيدًا عن الأرقام، كنت أشعر ببساطة أنني حين أتحرك، يبدأ رأسي في التهدئة، كما لو أن جسدي يُعيد ترتيب أفكاره.

وربما أكثر ما ساعدني هو أن أتوقف عن مقارنة نفسي بالآخرين. أن أتخلى عن فكرة أن هناك نسخة مثالية يجب أن أصل إليها. في كتاب The Now Habit، يقول نيل فيوري:


“الإنتاجية الحقيقية تبدأ عندما نتخلى عن فكرة المثالية، ونمنح أنفسنا الإذن لنكون بشريين.”


هذه الجملة وحدها كانت كافية لتمنحني بعض السلام.

لا أدعي أنني وجدت الحل الكامل. هناك أيام أبدأ فيها عشرة أشياء ولا أنهي شيئًا. أحيانًا أقول لنفسي: “أنت ضائع”. لكنني في لحظات الهدوء، أذكّر نفسي بأنني لست ضائعًا، بل فقط أتنقل في خريطة تختلف عن خريطة الآخرين.

وربما، هذا بالضبط ما أريد أن أعيشه: حياة لا تُقاس بعدد المهام المُنجزة، بل بعمق اللحظات التي عشتها. أن أتعلم كيف أكون رفيقًا لرأسي، لا خصمًا له.

شارك هذا الـمقال