عن التردد المالي لشخص عاش بين الكتب لا البورصات
لا أعرف إن كنت قد قررت يومًا في حياتي قرارًا ماليًا بثقة. لا أذكر أنني دخلت نقاشًا عن الأسهم أو العقارات دون أن أشعر أنني دخيل. عقلي، المليء بالاقتباسات والأفكار، يخفت صوته حين يتعلق الأمر بالمال. كأن هذا العالم لا ينتمي إليّ… أو كأنني لا أملك أدوات ترجمته. نشأت بين الكتب. كنت أفهم المعنى قبل السعر، وأحفظ القصائد أكثر مما أحفظ العملات. تعلمت أن أقيس القيمة بجمال العبارة، لا بمردودها. أن أتأمل في سطور دوستويفسكي بدلًا من متابعة تقارير السوق. لذلك، حين بدأ المحيط من حولي يتكلم بلغة الأرباح، شعرت كأنني أستمع إلى لغة لم أتعلم حروفها. لكن المال، كالموت، لا يمكن تجاهله طويلًا.
التردد… ليس خوفًا فقط، بل هوة بين عالمَين
حين يقول لي أحدهم: “استثمر في كذا”، يبدأ رأسي فورًا في كتابة مقال: ما معنى أن أضع أموالي في شيء لا أفهمه؟ ما الذي أشتريه فعلًا؟ لماذا المال يتكاثر عند بعض الناس كأنه يعرف طريقه، بينما هو عندي يبقى جامدًا، حائرًا مثلي؟ في الفلسفة، يُعرف هذا باسم الانفصال المعرفي: أن تعيش بعقل تأمليّ يميل للمعنى، وتحاول أن تقرر في عالم يتطلب حسابات ونسبًا ومخاطرة. لا عجب أنني أتردد. لأن القرار هنا لا يشبه اختيار كتاب، بل يشبه القفز من صفحة بيضاء إلى سوقٍ يعج بالصوت والدخان.
المال في عيون الأدب
في رواية “آنا كارنينا“، كان كيتى ترى المال بصفته ضرورة خجولة، أما فرونسكي فكان يراه أداة للسيطرة. أما أنا، فقد كنت أراه طوال عمري شيئًا يُطلب، لا يُنتج. شيئًا يُدبّر بالكفاف، لا يُنمّى بالجرأة. وربما لهذا السبب، كل مرة أفكر في خطوة مالية، أعود منها مرتجفًا. أخاف أن أفقد لا المال فقط، بل إحساسي بذاتي. أن أتحول إلى شخص لا يشبهني. لكن… أليس في ذلك أيضًا تبرير للهرب؟
التردد كقناع للجهل
حين تأملت في سبب ترددي، وجدت أنه ليس نبلاً دائمًا. أحيانًا، هو فقط جهل مُتستِّر بالخوف. لم أتعلم لغة المال، فقررت أن أعتبرها لغة غير نبيلة. لم أفهم قواعد السوق، فافترضت أنها ضد القيم. لكن هل كل ما لا أفهمه معادٍ لي؟ قرأت مؤخرًا كتابًا بسيطًا عن المبادئ المالية الشخصية. لم أتحول إلى خبير، لكنني اكتشفت شيئًا مهمًا: أن المال ليس خصمًا للمعنى، بل هو أداة. وأن الفارق بين من يعيش بهدوء مالي، ومن يبقى في قلق دائم، ليس الذكاء… بل الوضوح والمعرفة والبدء.
بين الحذر والتعطيل
يقول الكاتب والباحث Morgan Housel: “المال ليس ما تعرفه، بل كيف تتصرف به حين لا تعرف.” وهنا وجدت تعزية. أنني لست مطالبًا بأن أفهم كل شيء كي أبدأ. بل أن أتخذ خطوات صغيرة، واضحة، أتعلم من خلالها لا قبلها. ترددي الطويل لم يكن دائمًا فضيلة. بل أحيانًا كان شكلًا من أشكال الشلل النفسي، الناتج عن المثالية. كنت أبحث عن القرار “الأفضل” ففقدت فرص القرار “الجيد بما يكفي”.
خطوات صغيرة… لا تخونك ولا ترهقك
حين قررت أن أتعلم، بدأت من أبسط نقطة: ليس من فكرة “الاستثمار“، بل من السؤال الشخصي: ما الذي أريد أن أفعله بالمال؟ هل أريد دخلاً إضافيًا؟ حرية؟ حماية من الطوارئ؟ الإجابة كانت: أريد أن أشعر أنني لا أعيش على الهامش المالي. ومن هنا، ظهرت الخطوات تدريجيًا:
-
فهم الإنفاق الشخصي بصدق: جلست أسبوعًا أكتب كل ما أصرفه. دون خجل. اكتشفت مثلًا أن 40% من مصروفي الشهري لا أعلم كيف يتبخر.
-
بناء صندوق طوارئ صغير: بدأت بوضع 10% من أي مبلغ أحصل عليه في حساب جانبي. لم يكن كثيرًا، لكنه جعلني أبدأ.
-
اختيار أداة استثمار بسيطة: قرأت عن “الصناديق الاستثمارية المتداولة – ETFs”، وبدأت بـ 100 دولار في صندوق “Vanguard S&P 500”. لم يكن الأمر مقامرة، بل خطوة طويلة الأجل.
-
قراءة بلغة تشبهني: مثل كتب The Psychology of Money وI Will Teach You to Be Rich.
-
مراجعة قراراتي دوريًا كل ٣ أشهر: كأنني أقول لنفسي: لا بأس إن تغيّر رأيك. المهم ألا تهرب.
لم أتحول إلى خبير. ولم يختفِ التردد تمامًا. لكنني الآن أتردد وأنا أتحرك، لا وأنا متجمّد. وأدركت أن التعامل مع المال لا يتطلب أن أغيّر جلدي، بل أن أبدأ بقطعة صغيرة من نفسي، وأتقدم بها. الكتب التي أحبها لا تعارض هذا. بل ربما كانت تدعوني منذ البداية أن أعيش بحرية… وليس هناك حرية حقيقية من دون بعض الوعي المالي. التردد؟ ما زال حاضرًا. لكن بجانبه الآن صوت آخر… يهمس بثقة: جرّب، لا لتربح فقط، بل لتتوقف عن الخوف.