عن الحقد والغيرة والحسد من الذين يبدو أنهم أفضل
لا أحد يعترف بسهولة بالحقد أو الغيرة أو الحسد. هذه مشاعر مظلمة، نُربّى على إنكارها، أو على الأقل تزيينها بمسميات ألطف: “أنا فقط لا أرتاح له”، أو “لا يعجبني أسلوبه”، أو “هو مغرور”. لكن الحقيقة، في كثير من الأحيان، أن هناك في داخلنا شيئًا يتقلص حين نرى نجاح الآخرين، خصوصًا أولئك الذين يشبهوننا… لكن سبقونا. الغيرة ليست دليل خبث، والحسد لا يعني بالضرورة أننا نريد زوال النعمة، بل أحيانًا أننا فقط لا نحتمل فكرة أن النعمة لم تأتِ لنا. أننا لا نفهم لماذا هو هناك… بينما نحن هنا.
في علم النفس، يُفرّق الباحثون بين الحسد العدواني والحسد التحفيزي. العدواني، هو حين ترى نجاح الآخر وكأنه إهانة لك. أما التحفيزي، فهو حين تشعر بالغيرة، ثم تُحوّلها إلى دافع للتحسين. لكن حتى هذا التصنيف — رغم صحته — لا ينزع عن الغيرة مرارتها. لأنها لا تُصيبنا فقط ممن يملكون أكثر، بل من الذين يشبهوننا تمامًا، ولكنهم تفوقوا. حين ترى زميلًا يترقى قبلك. أو صديقًا يتلقى المديح في دائرة تشترك فيها. أو شخصًا من خلفية قريبة جدًا من خلفيتك، لكن خطه التصاعدي بدا حادًا وسريعًا. تشعر وكأن إنجازه إلغاء ضمني لجهدك.
يتحدث أفلاطون عن النفس الشهوانية والنفس الغضبية والنفس العاقلة. وكان يرى أن النفس الغضبية — إن تُركت دون تهذيب — تتحول إلى مصدر للغيرة. بينما أرسطو رأى أن الحسد هو “الألم من رؤية الخير عند من نظنه لا يستحقه”. أي أن الحسد لا يولد فقط من النقص، بل من الحكم الأخلاقي الذي نُنزله على الآخر. ربما لا نغار من الفنان العبقري، أو الفيلسوف الكبير. لكننا نغار من زميلنا في المكتب، أو من قريبنا الذي كان مثلنا تمامًا ثم تغير مركزه فجأة. لأن المسافة ليست بعيدة بما يكفي لنُعجب… ولا قريبة بما يكفي لنتسامح.
قال يعقوب لابنه:
(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)
وفي الحالتين، الحسد يظهر كقوة كامنة، لا تفعل شيئًا إلا إذا تُركت دون وعي. لكن، هل يمكن مقاومة هذا الشعور؟ أم علينا فقط أن نُخفيه في الداخل، ونمضي؟ الحل لا يبدأ بالخجل من الشعور. بل بالاعتراف به. أن تقول لنفسك، بهدوء: أنا أغار. ليس لأنني سيئ، بل لأن هناك جزءًا في داخلي يشعر بالنقص. وأحتاج أن أفهمه، لا أن أُسكته. أحتاج أن أُذكّر نفسي بأن نجاح الآخر لا يعني فشلي، بل هو فقط نتيجة لتقاطع مختلف بين الموهبة، والظروف، والحظ، والقرار. أحيانًا، يكون ما يُثير غيرتنا ليس إنجاز الآخر بحد ذاته، بل رد فعل الناس عليه. نغار من أنه محبوب، لا فقط لأنه ناجح. وهذا يعود إلى جرح قديم في الداخل: أننا لم نشعر يومًا أننا مرئيّون بما يكفي.
في فلسفة الرواقيين، يُقال إن الإنسان لا يجب أن يُقارن نفسه بالناس، بل بنفسه بالأمس. لكن هذا القول — رغم حكمته — لا يصمد كثيرًا أمام ضجيج الحياة المعاصرة، حيث المقارنة هي الهواء. ما يمكن فعله، ربما، هو أن نُبطئ المقارنة، لا أن نلغيها. أن نعرف متى نغار، ممن، ولماذا. وأن نُراقب الشعور، لا أن نُلاحقه أو نُخفيه. الحقد لا يولد من فراغ. إنه ابن الغيرة المكبوتة، والتقدير الذاتي غير المستقر، والخلط المزمن بين من نكون… ومن يجب أن نكون. وإذا لم نُشبع هذا الجوع إلى المعنى بمصادر داخلية، فسنظل نأكل من أطباق الآخرين… ونلعنهم في السر.
في النهاية، لا أحد نقي تمامًا من الحسد. لكن الفارق بين من يتآكل ومن ينمو، هو أن الأول يُسلّم عقله لشعوره، أما الثاني، فينظر إليه… ثم يسأله: ماذا تريد أن تخبرني عن نفسي؟
وفقًا لـ المدرسة المعرفية في علم النفس، الشعور بالحسد لا يأتي فقط من رؤية نجاح الآخر، بل من تفسيرنا لهذا النجاح. نحن لا نغار من إنجاز، بل من قصة نرويها لأنفسنا عن هذا الإنجاز: أنه يعنينا، أنه يسحب منا الضوء، أو أنه يُثبت أننا تأخرنا. لذا، واحدة من الأدوات الأساسية لمواجهة الحسد ليست القمع، بل إعادة صياغة السرد الداخلي. أن نبدّل السؤال من: “لماذا هو؟” إلى: “ما الذي أعجبني في ما فعله؟ وما الذي يوقظني فيه؟”
أداة علمية أخرى فعالة هي ما يُسمّى بـ “إعادة التوجيه السلوكي” (Behavioral Rechanneling): أي تحويل الغيرة إلى مشروع صغير، ملموس، يخصّك. حين تشعر بالحسد من شخص نشر كتابًا، لا تكتب منشورًا غاضبًا أو تبالغ في تجاهله. بل خذ الورقة، واكتب فكرة. اجعل الشعور خيطًا للحركة، لا عقدة للشلل.
ومن أدوات العلاج السلوكي المعرفي أيضًا ما يسمى بـ “الوعي بالمقارنة الاجتماعية” (Social Comparison Awareness): أي أن تلاحظ نمطك في المقارنة، وتدرّب نفسك على كسر الحلقة. في كل مرة تشعر أن صورة أحدهم على إنستغرام أزعجتك، اسأل نفسك: “هل ما أراه هو الصورة الكاملة؟ هل أعرف ظروفه؟ هل أريد حقًا ما لديه؟” في الغالب، نغار من صور نمطية أكثر من أشياء نريدها فعلاً.
أخيرًا، تشير الدراسات إلى أن ممارسة الامتنان — ولو ببساطة — تقلل من شدة الشعور بالحسد. والامتنان هنا ليس أن تقنع نفسك بأنك سعيد، بل أن تتوقف لحظة، وتلاحظ ما تملكه فعلًا، ما خطوته الخاصة التي قطعتها، ما اللحظة الصغيرة التي شعرت فيها أنك أنت، بلا مقارنة.