بعد منتصف الليل
٥٦٢ كلمة
٠ تعليق

تأمل في محاولات بناء القرب بعد أن مضى العمر الأول

هناك مرحلة في الحياة، لا يُعلن عنها أحد، يُصبح فيها تكوين الصداقات مثل الكتابة بخط اليد في عصر الطباعة: أنيق، حميم، لكنه يحتاج إلى وقت، تركيز، وأحيانًا… شجاعة.
مرت سنوات الجامعة أو المدرسة أو الجيش. تلك المراحل التي كانت الصداقات تُنسج فيها بلا مجهود، مثل أوراق شجر تتجاور تحت ريح واحدة. لم نكن نخطط لشيء، فقط كنا نوجد في المكان نفسه، ونضحك على النكات نفسها، ونشتكي من الأساتذة أو التعب أو الخدمة العسكرية.
لكن الحياة لا تُبقي على تلك البيئات. ينفض الجمع، تنشغل الأوقات، ويبدأ سؤال صامت في الظهور: “أين ذهبوا؟ وأين أجد الآن صديقًا جديدًا؟”

كأن القرب أصبح صعبًا بطبيعته

في دراسة نشرتها مجلة Current Directions in Psychological Science، أُشير إلى أن الأشخاص بعد سن الثلاثين، يواجهون صعوبة متزايدة في بناء صداقات عميقة بسبب ما يسمى بـ**“الحمولة الاجتماعية العاطفية”**، أي أن الطاقة النفسية اللازمة لبناء علاقة جديدة تصبح أعلى، لأن الفرد يكون قد كوّن بالفعل دائرة صغيرة من العلاقات، ويخشى كسر توازنها.
المشكلة ليست في أننا لا نريد أصدقاء، بل في أن فكرة “أن تبدأ من جديد” — في هذا السن — تبدو هشّة.
من أين تبدأ؟ من محادثة سطحية؟ من فنجان قهوة؟ من دعوة مباغتة؟ كل شيء يبدو ثقيلًا… أو غير مناسب.

كان الزمن يبنينا معًا، والآن نحن مسؤولون عن البناء

في الماضي، كانت الصداقة تحدث لأنك وفلان كنتما تذهبان للصف نفسه.
الآن، أنت وحدك من يقرر: من؟ ولماذا؟ ومتى؟
وأنت وحدك من يخشى أن يُقابل رغبته في القرب… بصمت.


“نحن في زمن يعلّمنا كيف نحافظ على المسافات أكثر مما يعلمنا كيف نقترب.”

كتبها محمود درويش، وربما لم يقصد الصداقة، لكنها تنطبق عليها بدقة جارحة.

لكن هل يمكن أن نعيد تكوين روابط جديدة؟

نعم، ويمكن أن تكون حقيقية، ناضجة، وعميقة.
لكن لا بد أن نُغير فهمنا لماهية الصداقة أولاً.
أفلاطون في محاوراته، قسّم أنواع المحبة والصداقة إلى ثلاثة:
صداقة المنفعة.
صداقة اللذة.
صداقة الفضيلة، وهي الأندر، وتقوم على رؤية الروح للروح، لا على المصلحة ولا المتعة العابرة.
وهذه، صداقة الفضيلة، لا تولد من كثرة اللقاءات فقط، بل من التعرف المتدرج، والصدق، ومحبة الحقيقة في الآخر، لا الصورة.

خطوات لا تبدو بطولية… لكنها مهمة

  1. اقترب دون أن تُعلن كل نيتك.
    يكفي أن تسأل: “هل ترغب أن نلتقي؟” لا تضع ثقل الوحدة فوق الدعوة.

  2. افترض النية الحسنة.
    لا تتعامل مع كل تأخير على أنه تجاهل. الكبار لا ينسون فقط… بل ينهكون.

  3. شارك شيئًا يشبهك.
    مقالة. فكرة. جملة. هذه بوابات صغيرة لصداقة أكبر.

  4. كن كريمًا في التقدير.
    لا تقِس الردود بالمقاييس القديمة. فالصداقة في الثلاثينات لا تكون بمئة رسالة… بل بنقطة ضوء صادقة تظهر حين تحتاجها.

لكن قبل كل ذلك… اسأل نفسك: من تريد أن تكون معه صديقًا؟

ليست الصعوبة فقط في العثور على الصديق، بل في القدرة على تمييز من يستحق منك هذا القرب.
في كتاب The Art of Loving، يقول إريك فروم:
“كل علاقة إنسانية هي فعل فني، يتطلب الحضور، الصبر، التواضع، والعمل المستمر.”
فهل نحن مستعدون لنمنح هذا الفن من أنفسنا، لا فقط أن نطلبه من الآخرين؟

ليس من العيب أن تقول: أريد صديقًا

بل العيب أن نظن أن الصداقة شيء ينتهي عند سن معينة، أو أنها تأتي فقط من الحنين.
الصداقة لا تموت، لكنها تطلب منا أن نبحث عنها بصبر ناضج، لا بشغف طائش.
أن تكون وحيدًا أحيانًا، هذا طبيعي.
لكن أن تعتقد أن زمن الصداقة انتهى… فهذا افتراض قاسٍ وغير ضروري.
في زمن الاتصال المفرط،
ما زال العثور على صديق حقيقي واحد…
يشبه العثور على مكان دافئ في مدينة باردة.
نادر، نعم.
لكن ليس مستحيلاً.

شارك هذا الـمقال