بعد منتصف الليل
٨٩٠ كلمة
٠ تعليق

توفي والدي منذ بضعة شهور دون أي مقدمات ودون أن يعاني من أي مرض، ووسط الفاجعة والحزن المستمر خلال كل تلك الفترة؛ حاولت مواساة نفسي وتذكر اللحظات والتجارب والخبرات التي جمعتنا معاً، لكن ما زاد من حيرتي هو أنني لم أجد الكثير من الذكريات التي يمكنني استرجاعها، فخلال عمري كله؛ كان أبي يعمل أغلبية اليوم ولا يتدخل في أي شيء يخصنا كأبناء، بالتأكيد لم يعرف في أي مرحلة دراسية نحن، فكان يأتي من العمل ليشاهد مباريات كرة القدم ثم يذهب للنوم، لا يمكنني تذكر متى كانت آخر محادثة بيننا، ناهيك عن أي نشاط جمعنا.

لم تكن تلك هي تجربتي وحدي مع أبي، فالمشكلة نفسها تكررت وتتكرر مع أصدقائي وأبناء جيلي، فهي علامة مميزة لأبناء الثمانينات والتسعينات، نحن “الجيل الذي ربته نساء” كما يقول تايلر دَردن في فيلم Fight Club أحد أشهر أفلام التسعينات، والذي استحضر مقولته تلك وسط حديثه عن كوننا جيل مأزوم لديه اضطراباته الخاصة ويشعر بها أينما ولى وجهه.

وتلك كانت الملحوظة الثانية التي خرجت بها من تأملاتي، فكم من مشكلات وعيوب في شخصيتي وشخصيات أصدقائي وربما جيلي بأكمله؛ تسبب بها الأب الغائب، وافتقادنا لذلك النموذج الذي نقتدي به من الذكور، وهي المشكلة الآخذة في التفاقم مع زيادة معدلات الطلاق، وحالات الأم العزباء Single Mother، أو حتى في حالة الأب الحاضر الغائب وهي الحالة الأهون، لكنها مماثلة في الأثر النفسي والشخصي، وهو ما دفعني للتفكير في مأساتنا المعاصرة وكيف نفكر بها بعيداً عن اللغة الذاتية والذكريات والنوستالجيا. لكن من أين نبدأ؟

صعود وسقوط الأسرة التقليدية:

محورية دور الأب تأتي مترافقة مع مؤسسة الأسرة النووية Nuclear Family، الأسرة التي تتكون من أب وأم وعدد من الأطفال في بيتٍ واحد، وتمثل البنية الأساسية للمجتمع، فما يطرأ عليها يؤثر في مجمله بالضرورة.

لم تكن تلك الأسرة معطى اجتماعيًا وتاريخيًا ثابتًا، بل على العكس تماماً، فأغلبية التاريخ البشري المسجل ما بعد الثورة الزراعية؛ يشير إلى مجتمعات العائلة الممتدة، التي تتشارك فيها عدد من الآباء والأمهات بيتًا كبيرًا وسط الأرض الزراعية، ويتقاسمون مهام الزراعة والحصاد وتربية الأطفال في الإقطاعية نفسها، والذين تطوروا تدريجيًا على شكل قرى تتشاركها عائلة كبيرة من الأقرباء. ومع القرن الخامس عشر وبدايات عصر الكشوف الجغرافية والاستعمار بدأت المدن والمراكز الحضرية في الانتعاش، وتبدأ على إثرها انتقال قطاعات من الشعب للمساهمة في التجارة داخل تلك المراكز، الأمر الذي تسارع بمعدل أكبر مع عصر الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر والذي وضع بدوره حدًا للعائلات الممتدة، وبدأ في تشكيل الأسر النووية والتي يعمل فيها الأب في المصنع أو المنجم لأغلبية اليوم، فيما تقوم الزوجة بمهام المنزل والتربية، وفي أحيان كثيرة تجمع تلك المهام بالعمل في المصانع للمساعدة في الشؤون المالية. ومع ازدهار الصناعة وانتشارها عالميًا؛ تم توجيه الضربة الأخيرة للعائلات الكبيرة الممتدة، والتي اضطرت بدورها للهجرة خارج بلدانها الأصلية للعمل في مصانع ودول أخرى، ومن ثم تأسيس أسر نووية صغيرة لهم.

كان النصف الأول من القرن العشرين هو الفترة الذهبية للعائلة النووية، والتي دأبت الشركات على الترويج لها في حملات بيع الأجهزة الكهربائية والسيارات والمنازل، وشارك السياسيون في صياغة مفهوم “الحلم الأمريكي” دعمًا لتلك الأسرة، والتي احتلت رفاهيتها جميع أولويات الدولة، فكانت الولايات المتحدة وأوروبا نموذجًا لما يعرف باسم دولة الرفاه.

اختلف الوضع بدايةً من السبعينات، مع الأزمات الاقتصادية والثورات الطلابية والموجة النسوية الثانية وارتفاع المطالبات بالحرية الشخصية والجنسية، أخذت تلك الأسرة في التداعي لتبدأ معدلات الطلاق في الزيادة، حيث سُجلت معدلات تربية الأطفال داخل الأسر النووية في الولايات المتحدة ما نسبته 50% فقط خلال الفترة بين السبعينات والثمانينات، وهو انخفاض قياسي من الجيل الذي سبقه والذي جاء عند نسبة 80%، وهو ما يعني أن نصف عدد الأبناء وصلوا إلى سن مراهقتهم دون تواجد أبٍ مربٍ يمارس دورًا طبيعيًا.

كيف أصبحنا دون الآباء:

زيادة معدلات الطلاق في بلداننا العربية يضعنا في قلب المعضلة التي واجهتها المجتمعات الغربية، وهي غياب دور الأب إما بشكلٍ كامل مع الطلاق مثلًا وتربية الأبناء بعيدًا عن حضوره، أو في الدور الحاضر الغائب لأب لا يكترث كثيرًا ولا يمارس دوره الأسري. فبحسب عدد من الدراسات التي أُجريت على المجتمع الأمريكي وُجد أن الأطفال الذين يتم تربيتهم في غياب الأب يعانون من معدلات أعلى من: القابلية للإدمان، والعنف، والأمراض النفسية والعقلية، والأداء التعليمي المنخفض، بينما يعاني نصف الأبناء الذين يعيشون مع أم عزباء من فقرٍ قد يصل إلى 5 أو 6 أضعاف مقارنةً بمن يعيشون مع أبوين.

يعاني الأبناء الذين تربوا في غياب الأب من اضطراب هائل في شخصيتهم، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا. أحد تلك الاضطرابات هو غياب الثقة في الآخر لصعوبة قراءة التعبيرات العاطفية والاستجابة لها، بالإضافة إلى اضطراب صورة الذكورة المكتسبة من التربية واللعب وممارسة الأنشطة، والتي عند اختفائها تظهر نماذج شديدة التطرف بديلاً عنها، والتي تعرف حاليًا باسم المانوسفير Manosphere أو نظرية الحبة الزرقاء والحمراء وهي نظرية كارهة للنساء بالمجمل وتؤدي إلى تعنيف النساء أو حتى قتلهم مثلما ظهر في المسلسل القصير Adolescence. على الجانب الآخر، تظهر توجهات نسوية شديدة التطرف تحط من دور الرجال وأهميتهم في التربية وتقترح استبدالهم بالخالات أو العمات أو حتى المربيات، وهي الرؤية التي تسربت إلى أشهر أعمال السيتكوم Sitcom والرسوم الكرتونية الكوميدية مثل: Family Guy وThe Simpsons وRick and Morty، فيظهر الأب على هيئة أضحوكة وغير ناضج، لا يستطيع أن يعتني بنفسه أصلًا، بينما تكون الأم أكثر وعيًا ورعايةً واهتمامًا بالأبناء.

تتفاقم مشكلات الأجيال القادمة النفسية مقارنةً بآبائهم، وتقل ثقتهم في أنفسهم وتتطرف رؤيتهم للطرف الآخر والعالم، ويقتنع الرجال بعدم جدواهم في حياة الأبناء فيفاقمون من المعضلة، لتصبح مهمة حلها أصعب فأصعب، لكنه ربما تصبح أهون علينا كلما تأملنا في أسبابها وكيف انتهى عصر الآباء، وتذكرنا أننا ربما في حاجة إلى تجاوز تلك الأزمة بقرارٍ واعٍ.

شارك هذا الـمقال