الثامنة صباحًا
٨٥٩ كلمة
٠ تعليق

لم يحدث يوماً أن اخترت مجالاً مهنياً وقطعت فيه شوطاً، إلا وشعرت بأنه المجال غير المناسب. في البداية عملت في الهندسة المدنيةمجال دراستي وتخصصي، لكنني سرعان ما شعرت بالملل، ثم عملت في مجال آخر أقرب للهندسة بصفة عامة لأنتهي إلى الشعور ذاته، وبعد سنوات من عملي ككاتب لازال الإحساس بالملل يراودني من وقتٍ إلى آخر، ليس فقط الملل ولكن القلق أيضاً. فبحسب إحصائية لأحد أشهر مواقع التوظيف LinkedIn؛ يشعر 72% من المتخصصين والموظفين بالقلق من أن حياتهم المهنية لا تتقدم إلى أي مكان، عند مقارنة أنفسهم بالآخرين.

الشعور بالملل في وظائفنا والقلق أن مساراتنا المهنية لا تفضي إلى أي مكان، مقارنةً بأقراننا على منصات التواصل الاجتماعي؛ بات يعرف باسم “Career FOMO”. وهو الشعور بالخوف من أننا قد نكون متأخرين عن الحصول على وظيفة أحلامنا أو أننا لا نتقاضى راتباً يتناسب مع سنوات الخبرة، أو أن من يظهرون لنا على منصات التواصل الاجتماعي قد اختاروا وظائف أكثر كفاءة وعصرية تمكنهم من الحصول على رواتب أعلى وفرص ترقي واستقرار مالي أكثر منا. وهنا يبدأ الجميع في التفكير أنهم على الأغلب قد أخطأوا في اختيار هذا المسار الوظيفي، وأن عليهم ترك المجال بأكمله والانتقال لمجالٍ آخر Career Shift، سواء بتعلم لغة أو مهارة جديدة أو بدء مشروع خاص، كما فعل كل الناجحين على السوشيال ميديا، طمعاً في فرص أفضل وتجربة مثيرة.

يقع هؤلاء ضحية لظاهرة نفسية تعرف بـ(FOMO) Fear Of Missing Out أو الخوف من الفوات. فما تظهره السوشيال ميديا من صور وفيديوهات وقصص للناجحين قد لا تصل نسبته للـ1% من التجارب، بينما اختفت تجارب الفشل وهي كثيرة، دون أن يعرف بها أحد. وبالبداهة فكلما زاد المعروض قل ثمنه، أي أن الوظيفة أو المشروع أو المهارة الجديدة ذات الأجر المرتفع وفرص الترقي، ما أن تستقطب عدداً محدداً؛ حتى تتراجع وتنخفض كل فرصها لتشبع سوق العمل بها. لكن ما هي ظاهرة الـFOMO؟ وكيف تنشأ؟ وهل يمكن التخلص منها؟

عن القلق المُعمم:


عرّف علماء النفس والاجتماع ظاهرة الـFOMO أو الخوف من الفوات في بداية الألفية، أنها شعور الإنسان بالخوف والقلق من عدم اختياره الاختيار الصحيح، والاختيار الصحيح هنا ليس هو الاختيار المدروس بعناية، وإنما هو الاختيار الذي يختاره الوسط الاجتماعي المحيط به في لحظةٍ ما، والذي يخاف الإنسان أن يفوته هذا الاختيار فيشعر بالندم ومن ثم بالنبذ من وسطه الاجتماعي، ومن ثم فقدانه فرصة ذهبية كي يكون إنساناً أفضل وأكثر نجاحاً وثراءً.

وفي بحث بعنوان “الدوافع والمشاعر والسلوكيات المرتبطة بالخوف من الفوات” يقول الباحث أندرو برتزبليسكي؛ إن ظاهرة الـFOMO ترتبط باحتياجات الإنسان التي لم يتم تلبيتها، احتياجات مثل القبول الاجتماعي، والتحقق الذاتي، ورضا الإنسان عن حياته الشخصية. وبدون تلبيتها يتجه الإنسان لتقدير كل ما هو خارج عالمه الخاص، ويصبح أكثر رغبة في تقليد هذا الخارج ومتابعته أولاً بأول؛ لأنه يفقد ثقته بنفسه عند الانقطاع. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستغراقنا فيها لفترات طويلة، تحولت ظاهرة الخوف من الفوات من مجرد ظاهرة مرتبطة بالمراهقين المدمنين لتطبيقات المحادثة والتواصل؛ لتصبح ظاهرة عامة تؤثر على جميع المستخدمين بغض النظر عن أعمارهم، لتدخل من هنا إلى حياة الشخص اليومية وطبيعة عمله. فيأخذ في مقارنة نفسه بغيره، في البداية يشعر بالملل ثم بمرور الوقت يشعر بالقلق أنه ربما يتخلف عن المحيطين به، والذين يطلع على حياتهم يومياً بيوم، ليسود القلق كل المستخدمين ومتابعي المشاهير وقصص نجاحهم.

وظائفنا تحت تأثير الملل والقلق:


تدفعنا ظاهرة الخوف من الفوات (FOMO) لمقارنة أنفسنا بالآخرين على الدوام، في الملابس والمقتنيات وشركاء الحياة، وصولاً إلى وظائفنا نفسها، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الشعور بالضغط والإرهاق. فبحسب دراسة لـAmerican Psychological Association؛ فقد أبلغ 65% من الموظفين شعورهم بالإرهاق الشديد، الناتج عن سعيهم لتحقيق المزيد في حياتهم المهنية، وهو ما قد يدفع البعض لاتخاذ قرارات غير مدروسة؛ بترك تلك الوظائف الحالية والسعي في مسارات أخرى، والتي يحتمل أن يشعر فيها الفرد بالشعور نفسه، فشعور الخوف من الفوات يركز بالأساس على ما لا نمتلكه، بحيث يصبح ما نمتلكه أكثر رتابة ومللاً وأقل جاذبية يوماً بعد يوم.

تقع على منصات التواصل الاجتماعي المسؤولية الأكبر من تلك المشكلة، فبينما يتباهى المؤثرون برحلاتهم حول العالم وممتلكاتهم من أحدث السيارات، ويتحدث صديق عن مشروعه الذي أُدرج مؤخراً في البورصة، يشعر المتابع أنه أقرب للمحتال الذي يخشى أن يتم اكتشافه، فيما يعرف باسم متلازمة المحتال Impostor Syndrome، وهي شعور يلازم الإنسان أنه غير مناسب لوسطه الاجتماعي، وأنه أقل من كل المحيطين به، وفي حالة الوظائف يمكن لذلك أن ينعكس على انخفاض الأداء وجودة العمل.

وأمام الظاهرة النفسية وتداعيات البث المباشر لحياة البشر على منصات التواصل الاجتماعي؛ تصبح هناك حاجة ملحة لتعديل نظرتنا إلى وظائفنا اليومية. واحدة من تلك الطرق هي التفكير في طريقة عمل خوارزميات تلك المنصات، فهي لا تبرز كل الحقيقة وإنما مجرد صور ومقتطفات لا تحكي حكاية أصحابها كاملةً.

على الجانب الآخر؛ فنحن بحاجة إلى مقارنة أنفسنا بأنفسنا فقط، دون الوقوع في دوامة المقارنات مع الآخرين، والتي تغفل من أين بدأوا؟ وكيف؟ وإلى أي درجة اختلفت الظروف؟ من ثم البحث عن مرشد أكثر خبرة في مجالنا يمكننا أن نتعلم منه كيف نتطور على مر السنين، وإلى أين يمكننا أن نذهب من هنا؟

من ثم البحث عن التوازن Work-Life balance، وتوسيع دوائر أصدقائنا الحقيقيين خارج السوشيال ميديا، وتجربة اهتمامات ونشاطات أخرى بجانب العمل، مع تقليل ساعات حضورنا على وسائل التواصل الاجتماعي. تستطيع هذه المهارات أن تكون كافية لو اقتنعنا بها أن تخلصنا من وهم حالة الـFOMO بكل سلبياته، وتمنعنا من اتخاذ خطوات متهورة غير محمودة العواقب ندفع فيها سنوات من أعمارنا.

شارك هذا الـمقال