يمكن لعدد كبير من الأنشطة التي يمارسها الإنسان يوميًا دون أن يعطيها قدرًا كبيرًا من الاهتمام—مثل المشي، أو الطبخ، أو قيادة الدراجة النارية، أو تنظيف الغرفة—أن تصبح ممارسة تأملية في حد ذاتها. فهذه الأنشطة التي قد تبدو روتينية؛ قادرة على إيقاف تداعي الأفكار والمشاعر السلبية، والتركيز على أداء النشاط نفسه. وفي حالة نشاط مثل المشي، يبدأ الإنسان بالتركيز على ما هو خارجه بالكامل، سواء الطبيعة أو المجموعات البشرية حوله أو حتى المباني ومنشآت المدينة. ومع تحوّل تلك الأنشطة إلى روتين يومي ولفترات زمنية محددة، يمكننا أن نلاحظ حالة عامة من التحسّن المزاجي والنفسي بل وحتى الجسدي، لتتحول الأنشطة المملة أو التي قد يعتبرها الإنسان “إجبارية” بشكلٍ ما؛ إلى وسيلته الوحيدة للانقطاع عن عالمه وكل ما يشكّله من التزامات وتوقعات وأعباء.
لطالما تحدّث علماء الأنثروبولوجيا والحفريات عن دور المشي في تاريخنا التطوّري كبشر، فانتصاب القامة والمشي أتاحا لنا حرية التصرف بأيدينا واستعمالها كما نشاء، سواء للبقاء على قيد الحياة أو للتعبير عن أنفسنا. وبعيدًا عن المشي من المنطقة “أ” إلى “ب”، أو ضم المشي كنشاط رياضي إلى جداولنا المزدحمة، فإن المشي بلا وجهة سواء في المدينة أو وسط الطبيعة يمكنه أن يحرّرنا ويعالجنا كما لا يفعل أي نشاط آخر.
المشي كفلسفة علاجية
يقول الفيلسوف الفرنسي فريدريك جروس إن المشي يمكنه أن يحرّرنا من هويتنا، فكل محاولاتنا كي نبدو أشخاصًا لديهم اسم وتاريخ وقصة، ومن ثم ينتمون إلى البناء الاجتماعي حولهم؛ كل ذلك يتم تعطيله واقتطاع الإنسان من سياقه مؤقتًا. يقول:
“الحرية التي نكتسبها من المشي تأتي من إمكانية ألا نكون أحدًا، فالجسم الذي يمشي هو بلا تاريخ، بل مجرد جزء من التدفق في مجرى قديم للحياة.”
والتحرر من الهوية يعني أننا لسنا مطالبين بتقديم أنفسنا لأحد أو انتظار أي اعتراف خارجي، بل نصبح “ذواتًا” يمكنها التفكير في مواضيع أكثر فلسفية. ويقول جروس إن المشي وسط الطبيعة أو على شاطئ البحر يربطنا بما يُعرف بـ”الجليل” (Sublime)، وهي حالة لا يمكننا أن نختبرها عن طريق أي نشاط بشري آخر.
الطبيعة العلاجية الأخرى للمشي أنه يُبطئ شعورنا بالزمن، وكأن الزمن يأخذ في التباطؤ. على النقيض من الحركة السريعة والمستمرة ليل نهار التي تفرضها التكنولوجيا والحياة الحديثة. ويقول جروس:
“الأيام مع المشي البطيء تغدو أطول للغاية، وهي تجعلنا نحيا لفتراتٍ أطول، لأنك تتمكن من التنفس كل ساعة وكل دقيقة وكل ثانية بشكلٍ أعمق من أي شيء آخر.”
أثر المشي في فلاسفة وأدباء وفنانين
أثّر المشي في عدد كبير من كبار الفلاسفة والأدباء. فقد كان الفيلسوف اليوناني أرسطو لا يلقي تعاليمه إلا وهو يمشي، لذلك سُمّي هو وتلامذته بـ”الفلاسفة المشّائين“، وهو ما انتقل أيضًا إلى الفلاسفة المسلمين. وفي العصر الحديث اهتم فريدريك نيتشه وإيمانويل كانط وهايدغروفالتر بنيامين وبيتهوفن بالمشي كوسيلة للإلهام الفكري والروحي.
كره نيتشه المثقفين الذين يحدقون في الكتب ويأخذون منها فقط مصدرًا لأفكارهم، بدلًا من أن تأتي الأفكار أثناء المشي أو الرقص أو بالقرب من البحر. وقال:
“لا تصدق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق وتحت تأثير حرية الحركة.”
وكأنه أراد أن يخبرنا أن للفكرة جينات مرتبطة بسياق نشأتها، والمشي هو أفضل تلك السياقات، وقد قدّم أهم أعماله أثناء إقامته بالقرب من جبال وغابات الألب.
أما الفيلسوف فالتر بنيامين، فالمشي في شوارع باريس كان بالنسبة له تمرينًا في التأمل الاجتماعي. كتب عن “ممرات باريس”، التي نتجت عن اضطراب اقتصادي جعل الثروة والفقر يتعايشان. فكان يرى أن المشي في المدينة يكشف عن تاريخها وطبقاتها وتغيرات البشر فيها، بداية من الثورة الفرنسية حتى بناء تلك الممرات.
المشي هنا يبدد الوحدة نظريًا، ولهذا السبب تحاول المدينة دائمًا مقاومته، بتقليص الأرصفة وتوسيع طرق السيارات عامًا بعد عام.
من الروح إلى الجسد
لا يكتفي المشي بعلاجنا وتحريرنا وإعادة برمجة نظرتنا للعالم، بل هو قادر على إطالة أعمارنا ووقايتنا من عدد من الأمراض المعاصرة مثل ارتفاع ضغط الدم، والكوليسترول، والسكري، والاكتئاب.
في دراسة تابع فيها الباحثون 4840 رجلًا وامرأة لمدة عشر سنوات من المشي 8000 خطوة يوميًا، وجدوا أن معدلات الوفاة تقل بنسبة 51% عن الذين مشوا معدلات أقل.
في تقرير لـ جامعة هارفرد للصحة العامة، يُذكر أن متوسط عدد الخطوات التي يمشيها المواطن الأمريكي يوميًا هي حوالي 4800 خطوة فقط، وأن البشر يعودون تدريجيًا لحياة الجلوس المستمر أمام الشاشات، سواء للعمل أو للترفيه، وهذا عكس ما ميز الإنسان تاريخيًا، وهو الاستقامة والمشي