⁠الخامسة عصرًا
٨١٥ كلمة
٠ تعليق

تعتبر الجمعية الوطنية للصحة النفسية National Institute of Mental Health (NIH)، أن مرض نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) هو واحد من أكثر الاضطرابات شهرة بين الأطفال والمراهقين بل وحتى يمتد أثره للبالغين، وتحدد الجمعية أعراضاً عامة له؛ مثل فقدان القدرة على الانتباه والاهتمام لفترات طويلة، وثانيها هو فقدان الطفل القدرة في السيطرة على اندفاعاته وسلوكياته وزيادة النشاط بشكل مبالغ فيه، وبحسب بيانات مركز الإحصاء الوطني لصحة الأطفال (NSCH) فإن الأطفال من عمر 4 الي 17 عاماً يختبرون زيادة مستمرة في معدلان التشخيص بأعراض الADHD، فمنذ العام 2003 حتى العام 2011 زادت النسبة بمعدل (42%)، وتزيد النسبة في حالة الأطفال من الذكور عن أقرانهم من الإناث، وتضيف الإحصائية أن ثُلث الحالات المصابة بتلك الأعراض في الطفولة على الأغلب يعيشون بها مراحل المراهقة والبلوغ.

يعيق هذا المرض جيل جديد من الأطفال حول العالم، فتصبح نشاطات مثل التعلُّم والنمو واكتساب مهارات اجتماعية مناسبة تؤهلهم للمستقبل؛ عملية أصعب فأصعب، وهو ما استدعى عدد كبير من الباحثين والدارسين في مجالات الطب النفسي والتربية وحتى علماء الاجتماع، لدراسة هذا الاضطراب ومحاولة الوقوف على أسبابه ومحفزاته الرئيسية. فلماذا يزداد هذا الاضطراب اليوم؟ وما علاقة وسائل التواصل الاجتماعي بظاهرة التلعيب؟ وكيف تؤثر في الانتباه؟

ظاهرة التلعيب ووسائل التواصل الاجتماعي:

في دراسة بعنوان “فهم الاستخدام المُضطرب لوسائل التواصل الاجتماعي عند الأطفال وعلاقته باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD)” المنشور في مجلة (brain Science)، يوضح الباحثين الي وجود أدلة مادية قوية على وجود علاقة بين تفاعل الأطفال مع وسائل التواصل الاجتماعي مثل (فيسبوك وانستغرام وتيك توك) وبين أعراض الADHD، فوسائل التواصل تستهدف الإفراط في جذب انتباه الأطفال وابقائهم متصلين بالتطبيقات من ثم بأقرانهم ودوائرهم الاجتماعية المفترضة لأطول فترة ممكنة من أجل اشباع رغبة التواصل الاجتماعي التي يطورها الطفل خلال تلك المرحلة، لكن ماهي الميكانيزمات التي تستخدمها تلك الوسائط من أجل جذب انتباه الطفل؟

في العام 2003 أطلق مصمم الألعاب الإنجليزي نيك بيلينغ؛ مصطلح “التلعيب Gamification” على الوسائط التي تستخدم عناصر من عالم ألعاب الفيديو، مثل واجهات المستخدم والأيقونات وعناصر المُكافئة والشارات وغيرها من الميكانيزمات، من أجل جذب انتباه المستخدمين لتحقيق بعض الأهداف في العالم الواقعي، مثل التعلُّم أو التواصل الاجتماعي أو العمل غيرها من الأهداف التي نحتاجها في عالم اليوم وإنما تنقصها عناصر التحفيز، وخلال العشرين عاماً الأخيرة أصبحت نظرية “التلعيب” ثقافة قائمة بذاتها، يمكننا أن نجدها في أشهر برنامج لتعليم اللغات مثل Duolingo أو في منصات تعليمية مثل Coursera أو Khan Academy، بل وحتى في تطبيقات للعناية بالصحة مثل تطبيق الجري Zombies, Run! والذي يضع المستخدم في أجواء لعبة بطلها ناجي من وباء حوّل البشر الي (موتى أحياء) ويطلب منه أن يجري لأكبر مسافة ممكنة، لتصل تلك التطبيقات الي ذروتها مع تطبيقات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المواعدة والبث المباشر وغيرها من التطبيقات التي تعتمد على تسليع “عنصر الانتباه” من أجل تحقيق أرباح مباشرة.

تعتمد استراتيجية التلعيب على عناصر بعينها يمكنها مثل التقييم الدوري Feedback loop وهي طريقة لتحديد التقدم الذي أحرزه المستخدم في مهامه اليومية، كما يخبرك تطبيق دولينجو عن المرحلة التي حققتها في تعلمك الإسبانية مثلاً وهل تخلفت عن جدولك، أو أرقام الفيسبوك التي يعطيها لمستخدميه لقياس مدى تفاعل أقرانهم معهم ومدى انتشار المنشورات، وثانيها عناصر المكافئة مثل النقاط وعدد المشاهدات والإعجابات ومؤخراً التعبيرات emojis والهدايات كما في reddit وTik Tok، أو حتى الشارات مثل العلامات التي ترافق حسابات المشاهير أو الشارةPadge التي تحصل عليها كأفضل متابع للصفحة، وتستثمر شركات التكنولوجيا العملاقة في دراسة هذه العناصر وتطويرها يوماً بعد يوم، لأجل ضمان استمرارية تفاعل المستخدمين وجذب انتباههم وتحقيق مبيعاتهم المستهدفة من بيع بيانات وتفضيلات المستخدمين.

لكن كيف تؤثر تلك الميكانيزمات على الأطفال تحديداً؟

النمو المضطرب للدماغ:

يمر المراهق خلال فترة عمرية معينة بتغيرات كبيرة في المناطق المعرفية والاجتماعية والعاطفية في الدماغ، وخلال تلك المرحلة يصبح المخ أكثر حساسية للاستجابة للمكافآت وخصوصاً ان كانت ذات مصدر اجتماعي مثل ثناء الأقران أو وجود معجبين ومتابعين، ما يجعل من الاستجابة العاطفية والاجتماعية للطفل أكثر تطوراً من أي استجابة أخرى؛ نظراً لوصول نشاط الدماغ المسؤول عن تلك النشاطات الي ذروة نموه، بينما تنمو بقية عناصر الدماغ مثل (الفص الجبهي) بوتيرة أبطأ، ففي دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI؛ وجدت أن نشاط الدماغ المرتبط بالمكافئة ومعالجة المعلومات الاجتماعية كان أكبر في عندما حصل على عدد كبير من الإعجابات عن صوره الشخصية مقارنة بالنشاط المُسجل مع الإعجابات الأقل.

التحفيز الدائم لمناطق الدماغ العاطفية والتي تستجيب للمكافئات (اللوزة الدماغية amygdala) تقلل من قدرة المراهقين على التحكم بشكل تثبيطي في هذه المناطق، وهذا ما دفع أغلب الدراسات التجريبية الي ربط فرط الحركة ونقص الانتباه ADHD مع نقص النشاط في مناطق الدماغ المتورطة في التحكم المعرفي، أي أن مخ المراهق ينمو بشكلٍ مضطرب ويتجه بشكلٍ مختل للبحث الدائم عن التحفيز الفوري في اشكاله العاطفية والاجتماعية، بينما لا يتجه بالقدر نفسه للتعامل مع الوظائف التنفيذية مثل الذاكرة والتخطيط الذي يستدعي مكافآت متأخرة.

وهنا تصبح ميكانيزمات التلعيب عنصر حاسم في جذب انتباه الأطفال والمراهقين، ومكافئتهم بشكل دوري ومستمر من أول تسجيل الدخول على تطبيقات التواصل الاجتماعي وحتى التذكير الدائم بالإشعارات، ومع تكاثر هذا الوسائط والتطبيقات يصبح الطفل مشتتاً أكثر فأكثر ومقبلاً وأقل اقبالاً على اكتساب سلوكيات اجتماعية ومعرفية سليمة، يؤدي الي تعثرهم في المستقبل.

شارك هذا الـمقال