الرابعة صباحًا
٩٢١ كلمة
٠ تعليق

مع كل كارثة جديدة، ستفتح فيسبوك أو تويتر، لتجد هذه الجملة، بتنويعات مختلفة: “جيلنا سيئ الحظ”، “رقم جديد في قائمة المآسي”. ثم تبدأ حفلة صغيرة من الحسرة على الجيل الذي عاصر وباءً، وكارثة، وانهيارًا اقتصاديًا، وأزمة سياسية.

أخاطر الآن بأن أكون الشخص ثقيل الظل الذي يُصرّ على التوقف عند النُكتة ليحللها، لكن الفكرة الأولى التي أنطلق منها هنا، هي أن الأمر ليس كله مزاحًا، وبعض المزاح يحمل كثيرًا من القناعات الحقيقية، لأننا لا نستقبل المعطيات من حولنا بنفس الطريقة. وهناك من يقرأ كلامًا من هذا، فيستغرق بالفعل في حالة من الحزن والألم، قد تكون سببًا في زيادة شعورهم بالنقمة والغضب. (مثال: أنا). يصبح كل شيء بلا معنى: ما فائدة الاستمرار في الدراسة إذا كان هناك فيروس قاتل يجوب الأرجاء؟ وما فائدة الحصول على هذه الشهادة العالية إذا تنبأ العلماء بنهاية العالم الصيف القادم؟ وما الداعي من الاستمرار في هذه العلاقة إذا كان الوضع الاقتصادي في انحدار تام؟

ولكن الأهم بالنسبة لي هو سؤال: لماذا نفكر بهذه الطريقة من الأساس؟

أحد الأسباب المحتملة بالطبع هو التعرض المفرط للمعلومات في عصر الإعلام الرقمي الذي نعيشه. نجد أنفسنا محاطين بأخبار الأزمات السياسية والاقتصادية والبيئية باستمرار. هذا التعرض يخلق تأثيرًا نفسيًا يعرفه بعض المتخصصين بـ**”الاستثنائية السلبية”**؛ نعتقد أن حياتنا هي الأكثر اضطرابًا مقارنة بالأجيال السابقة. في الماضي، كانت الأزمات تُروى شفهيًا أو من خلال كتب التاريخ، وعلى من يرغب في معرفة الكوارث أن يسأل أو يقرأ. أما الآن، فالتعرض اليومي والمباشر لهذه الأخبار يجعل الشعور بوطأة المصاعب جزءًا لا يتجزأ من حياة جيلنا.

يشير عالم النفس دان غيلبرت إلى أن أدمغتنا مبرمجة للاستجابة للمخاطر والمخاوف أكثر من استجابتها للأمور الإيجابية، وهذا ما يُعرف بـ**”الانحياز السلبي”**. هذا الانحياز يجعلنا نشعر وكأن الظروف المحيطة بنا أشد سوءًا مما هي عليه فعلًا. وعندما نتعرض باستمرار للمشكلات العالمية، من الحروب إلى الأزمات البيئية، يزداد هذا الإحساس بقوة.

من الأمور التي ينبغي التفكير فيها، هو أن البشر يعيشون في عالم دائري، لا عالم أحداثه تسير على خط مستقيم. فالأحداث تدور في أفلاك، لا تسير تجاه هدف واحد. فكما تشرق الشمس في جانب من العالم، تغرب في جانب آخر. حين كانت الولايات المتحدة تعاني من آثار الحرب الأهلية، والتي تسببت في دمار واسع وقتل العديد من الجنود والمدنيين، كانت بريطانيا تعيش “العصر الفيكتوري” بازدهار صناعي وثقافي كبير، أصبحت فيه لندن مركزًا عالميًا للاقتصاد والثقافة. وفي عام 1770، أثناء المجاعة الكبرى في البنغال التي تسببت في وفاة نحو 10 ملايين شخص بسبب الجفاف وإدارة الحكم البريطاني الاستعمارية، كانت أوروبا تنعم بفترة من التنوير والتقدم العلمي، حيث كانت أفكار مثل الحرية والحقوق الإنسانية والاختراعات العلمية في أوج تطورها.

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ليس بسيطًا. نحن نظنه كذلك لأننا نعيش بداخله، فلا ندرك تأثيره بالكامل. لكن علينا ألا ننسى قوّته في تشكيل تصورات الأفراد عن أنفسهم وعن عالمهم، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالمقارنات الاجتماعية. يعتقد أرسطو أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي يقارن نفسه بالآخرين، ولكن في عصرنا الحديث، أصبحت المقارنات موجهة نحو صور مثالية يعرضها الآخرون عن حياتهم، مما يجعلنا نعتقد أننا في وضع أقل حظًا طيلة الوقت. هذا الشعور يعمّق الإحساس بالنقص أو الفشل الشخصي ويعزز شعورنا بأن الحياة أصبحت أكثر صعوبة.

أتذكر هنا جملة ألبير كامو: “الحياة هي مجموع اختياراتنا”، لأنها كذلك فعلًا. وبدلًا من التوقف عند ما نعتقد أنه سوء حظ أو ظروف صعبة(وأحيانًا ما تكون كذلك فعلًا)، فإن علينا أن نعرف ما الذي يمكننا فعله، حتى لو كان هذا العصر هو أحلك عصور الإنسانية، لأن ذلك لن يُغيّر من حقيقة أن علينا أن نفعل شيئًا.

الأسوأ حظًا أم الأكثر اتصالًا؟
أعجبني مؤخرًا مصطلح توصيفي للشخص الذي يرى العالم غالبًا من شاشة هاتفه، هو “chronically online” (على الإنترنت بشكل مزمن)، وأعتقد أن هذا المصطلح بديل جيد لفكرة الجيل الأسوأ حظًا في التاريخ. نحن فقط أكثر جيل يعيش قسطًا معتبرًا من حياته على الإنترنت. لا نعرف بعد كيف نتوقف عن ملاحقة الأخبار والكوارث، ونشعر أن علينا تسجيل مواقفنا تجاه كل أزمة، سواء حدثت في المدينة المجاورة أو القارة الأخرى. لا نستطيع تحليل ما نستهلكه بشكل نقدي، خوفًا من أن تنتهي الصيحة قبل المشاركة فيها.

أفكر دائمًا في ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الروماني الذي واجه العديد من الكوارث خلال فترة حكمه، أبرزها تفشي الطاعون الأنطونيوالحروب المستمرة على حدود الإمبراطورية، خاصة مع القبائل الجرمانية.

خلال الطاعون الأنطوني (165–180م)، اضطر ماركوس أوريليوس إلى الحفاظ على وحدة الإمبراطورية وسط أزمة صحية حادة. الطاعون أثّر على الاقتصاد وأضعف الجيش، لكنه لم يكن طبيبًا ولا خبيرًا في الأوبئة. ركّز فقط على ما يستطيع فعله: تعزيز إرادة المواطنين وتقوية الجيش.

وفي مواجهة الحروب الجرمانية، قاد الجيش بنفسه، وقضى سنوات طويلة بعيدًا عن روما، يحافظ على استقرار الحدود ويمنع اختراقها. أظهر قوة الإرادة والتحمل، وتعلّم التكيّف مع الظروف عبر الفلسفة الرواقية التي آمن بها.

كتابه الشهير “التأملات – Meditations” هو تجسيد لهذا التركيز الداخلي في مواجهة الأزمات. كان دفترًا صغيرًا يسجل فيه حديثه مع نفسه، حول كيف يواجه الألم والمعاناة، مؤكدًا على أهمية التحكم في ردود الفعل والمشاعر بدلًا من محاولة تغيير ما لا يمكن تغييره.

ولو بدا ذلك مثاليًا جدًا، ولو كنت تقرأ هذا الكلام وأنت محشور في المترو، فعندك حق أن تشعر بسخفه. كلام كهذا لا يعني شيئًا وسط كل هذه الزحمة، لكن الفكرة أنه لا يوجد طريق آخر. ماذا نفعل؟ لن يختفي الناس فجأة، وغالبًا لن تكون رحلة الغد أسهل، لكن ما يمكننا فعله هو المحاولة. محاولة التركيز على ما يهمنا فعلًا، بطريقة تجعل الرحلة محتملة وتسمح لنا بالنجاة منها دون أن تُسحق نفوسنا.

لو كان هناك شيء يُجيده البشر بحق، فهو التأقلم. يمكننا التعلّم والتجاوز دائمًا. ما يجعلني أفكر أنه حتى لو كان جيلنا هو الأسوأ حظًا في التاريخ، فلا يهم.
سيكون علينا أن نستيقظ غدًا… وأن نحاول من جديد.

شارك هذا الـمقال