عتبر الجمعية الوطنية للصحة النفسية (National Institute of Mental Health – NIH) أن مرض نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) هو واحد من أكثر الاضطرابات شيوعًا بين الأطفال والمراهقين، بل ويمتد أثره حتى للبالغين. وتُحدّد الجمعية أعراضًا عامة له؛ مثل فقدان القدرة على الانتباه والاهتمام لفترات طويلة، وثانيها فقدان الطفل السيطرة على اندفاعاته وسلوكياته، وزيادة النشاط بشكل مبالغ فيه.
وبحسب بيانات مركز الإحصاء الوطني لصحة الأطفال (NSCH)، فإن الأطفال من عمر 4 إلى 17 عامًا يختبرون زيادة مستمرة في معدلات التشخيص بأعراض ADHD؛ فمنذ عام 2003 حتى عام 2011 زادت النسبة بمعدل 42%. وتزداد النسبة في الذكور مقارنة بالإناث، وتشير الإحصاءات إلى أن ثلث الحالات المصابة في الطفولة تستمر حتى المراهقة والبلوغ.
يعيق هذا المرض جيلًا جديدًا من الأطفال حول العالم، فتصبح نشاطات مثل التعلُّم، والنمو، واكتساب مهارات اجتماعية مناسبة تؤهلهم للمستقبل؛ عمليةً أصعب فأصعب، وهو ما استدعى عددًا كبيرًا من الباحثين والدارسين في مجالات الطب النفسي والتربية وحتى علماء الاجتماع، لدراسة هذا الاضطراب ومحاولة الوقوف على أسبابه ومحفزاته الرئيسية. فلماذا يزداد هذا الاضطراب اليوم؟ وما علاقة وسائل التواصل الاجتماعي بظاهرة “التلعيب”؟ وكيف تؤثر في الانتباه؟
ظاهرة التلعيب ووسائل التواصل الاجتماعي
في دراسة بعنوان “فهم الاستخدام المُضطرب لوسائل التواصل الاجتماعي عند الأطفال وعلاقته باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD)” المنشورة في مجلة Brain Science، يوضح الباحثون وجود أدلة مادية قوية على وجود علاقة بين تفاعل الأطفال مع وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، إنستغرام، وتيك توك وبين أعراض ADHD. فوسائل التواصل تستهدف الإفراط في جذب انتباه الأطفال وإبقائهم متصلين بالتطبيقات، ومن ثم بأقرانهم ودوائرهم الاجتماعية المفترضة، لأطول فترة ممكنة، من أجل إشباع رغبة التواصل الاجتماعي التي يطورها الطفل خلال تلك المرحلة. لكن، ما هي الميكانيزمات التي تستخدمها هذه الوسائط لجذب انتباه الطفل؟
في عام 2003، أطلق مصمم الألعاب الإنجليزي نيك بيلينغ مصطلح “Gamification – التلعيب” على الوسائط التي تستخدم عناصر من عالم ألعاب الفيديو، مثل واجهات المستخدم، الأيقونات، عناصر المكافأة، والشارات، من أجل جذب انتباه المستخدمين وتحفيزهم لتحقيق أهداف في العالم الواقعي، مثل التعلُّم أو العمل أو حتى التفاعل الاجتماعي. وخلال العشرين عامًا الأخيرة، أصبحت نظرية “التلعيب” ثقافة قائمة بذاتها، يمكننا أن نجدها في تطبيقات مشهورة مثل Duolingo لتعليم اللغات، أو منصات تعليمية مثل Coursera وKhan Academy، بل وحتى في تطبيقات صحية مثل Zombies, Run! الذي يضع المستخدم في أجواء لعبة بطلها ناجٍ من وباء الزومبي، ويُطلب منه الجري لأقصى مسافة ممكنة.
وقد وصلت هذه التطبيقات إلى ذروتها في وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات المواعدة، والبث المباشر، التي تعتمد على تسليع عنصر الانتباه من أجل تحقيق أرباح مباشرة.
تعتمد استراتيجية التلعيب على عناصر محددة، منها “حلقة التغذية الراجعة Feedback loop”، وهي طريقة لقياس التقدم، كما يفعل Duolingo في تعلم اللغات، أو فيسبوك في قياس مدى تفاعل أقرانك مع منشوراتك.
وثانيها، عناصر المكافأة مثل النقاط، عدد المشاهدات، الإعجابات، الرموز التعبيرية (emojis)، الهدايا في Reddit وTikTok، أو الشارات مثل شارة “الأكثر متابعة”، أو “الحساب الموثق”.
تستثمر شركات التكنولوجيا العملاقة في تطوير هذه الأدوات يومًا بعد يوم، لضمان استمرار التفاعل، جذب الانتباه، وتحقيق الأرباح من بيانات المستخدمين وتفضيلاتهم.
لكن كيف تؤثر هذه الميكانيزمات على الأطفال تحديدًا؟
النمو المضطرب للدماغ
يمر المراهق خلال فترة عمرية حرجة بتغيرات معرفية، اجتماعية، وعاطفية كبيرة.
وخلال هذه المرحلة، يصبح الدماغ أكثر حساسية للمكافآت، خاصةً تلك التي لها مصدر اجتماعي، مثل الإعجابات، المتابعين، أو التعليقات الإيجابية من الأقران.
هذا يجعل الاستجابة العاطفية والاجتماعية للطفل أكثر تطورًا من بقية الاستجابات، نظرًا لوصول المراكز المسؤولة عن هذه الاستجابات في الدماغ إلى ذروة نشاطها، بينما تستمر مراكز التحكم المعرفي مثل الفص الجبهي في النمو بوتيرة أبطأ.
في دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، تبيّن أن نشاط الدماغ المرتبط بالمكافأة ومعالجة المعلومات الاجتماعية كان أكبر بكثير عندما حصل المراهقون على عدد كبير من الإعجابات على صورهم الشخصية، مقارنة بالحالات التي حصلوا فيها على عدد أقل من الإعجابات.
التحفيز الدائم لمناطق الدماغ العاطفية، والتي تستجيب للمكافآت – مثل اللوزة الدماغية (amygdala) – يُقلّل من قدرة المراهقين على التحكم بشكلٍ تثبيطي في هذه المناطق. وهذا ما دفع أغلب الدراسات التجريبية إلى ربط فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) مع نقص النشاط في مناطق الدماغ المتورطة في التحكم المعرفي.
أي أن دماغ المراهق ينمو بشكلٍ مضطرب، ويتجه بشكلٍ مختل إلى البحث الدائم عن التحفيز الفوري في أشكاله العاطفية والاجتماعية، بينما لا يتطور بالقدر نفسه في التعامل مع الوظائف التنفيذية مثل الذاكرة والتخطيط، والتي تتطلب مكافآت مؤجلة.
وهنا تصبح ميكانيزمات التلعيب عنصرًا حاسمًا في جذب انتباه الأطفال والمراهقين، ومكافأتهم بشكلٍ دوري ومستمر؛ من أول تسجيل الدخول إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي، وحتى التذكير الدائم بالإشعارات.
ومع تكاثر هذه الوسائط والتطبيقات، يصبح الطفل مشتّتًا أكثر فأكثر، وأقلّ إقبالًا على اكتساب سلوكيات اجتماعية ومعرفية سليمة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعثرهم في المستقبل.