أربعة عشر عامًا كانت قد مضت على بث أول مباراة عبر الراديو في البرازيل، حين قرر «ريبيلو جونيور»، مُعلّق الإذاعة في راديو ساو باولو القديم أن يضفي شيئًا من التميز على أسلوبه في التعليق.
وقتها كان الراديو هو الوسيلة الوحيدة لمتابعة المباريات، أما وظيفة المعلقين فكانت نقل ما يدور في الملعب للمستمعين أولًا بأول. إذا أحرز لاعب هدفًا كانوا يعلنون عن ذلك بطريقة مقتضبة: “جول”.
حتى جاءت تلك اللحظة، ربما هي الأولى، من عام 1946.
قال «ريبيلو» لنفسه: إذا كان بقية المعلقين يتحدثون، فلم لا أصرخ! وإذا كانوا يتفقون على نقل الواضح الظاهر، فلم لا أغوص أعمق من ذلك!
استنسخ «ريبيلو» مشاعر الجمهور في الملعب وضخمها عبر الميكروفون، استعار صرخاتهم الطويلة لحظة الهدف، ونقلها عبر الأثير. وحين سكنت الكرة الشباك، صرخ: “جوووووووووووووووووول” حتى تهدّج صوته وتقطّعت أنفاسه وأوشك أن يسقط مغشيًا عليه.
لا يتذكر كثيرون تلك المباراة تحديدًا، ولا الهدف حتى، لكن ذلك المدَّ الطويل في كلمة “جول” علِق بوجدان الجماهير اللاتينية، ومنها إلى العالم.
سر تميز المعلقين العرب
في عام ٢٠١٥، تساءل الكاتب والاقتصادي المعروف نيكولاس ألتمان: «ما سر تميز المعلقين العرب؟».
يرى «ألتمان» أن التعليق العربي أفاد كثيرًا من المدرسة اللاتينية في حماستها وجنونها وتعاملها مع كرة القدم كتجربةٍ شعوريّة لها خصوصيتها، تتجاوز العشب الأخضر إلى حياةِ الناس اليومية، كما أنه أضاف بعدًا معرفيًّا وجانبًا معلوماتيًا استمدَّه من المدرسة الإنجليزية المنضبطة في شعورها ولغتها. عبَّر «ألتمان» كذلك عن الافتتان بشخوصِ التعليق العربي أيضًا، في وقتٍ تحول فيه المعلقون إلى نجومٍ بارزين، لم تعد متعة المباريات عند الجمهور مقتصرةً على مشاهدتها فحسب، وإنما على سماع انطباع معلقهم المفضّل عنها، ووصفه لأحداثها ورأيه فيها وانفعاله بها، ما ينعكس بدوره عليهم، ويشكل جزءًا من انفعالهم بها أيضًا.
يأتي المعلق التونسي الأشهر «عصام الشوالي» على رأس أولئك المعلقين، الذي وصف «ألتمان» أسلوبه بأنه يمزج «الرتم السريع بالحكايات الشعبية مع المعرفة الموسوعية».
دور اللغة في التعليق
في دراسة مقارنة بين لغة التعليق العربية المصرية والإنجليزية البريطانية، نُشرت في المجلة المصرية لدراسات اللغة الإنجليزية وآدابها عام 2022، لفهم الاختلافات بين مدارس التعليق المختلفة في اللغتين، فمدرسة التعليق الإنجليزية تميل إلى استخدام اللغة استخدامًا خبريًا، أو ما يعرف بـ locutionary speech، تحظى فيه معظم الجمل بتكوين ثابت، دون ابتكارٍ أو لمسة خيال، يكتفي المعلق بدور الراوي الذي ينقل الصورة كما هي، ولا يُشعِر مستمعيه بالفارق بين الهدف العظيم والهدف العاديّ.
على الناحية الأخرى نجد المدرسة العربية تتفنن في استخدام الجانب الإنشائي التفاعلي من الكلام أو ما يعرف بـ Illocutionary speech، تكون الجمل فيها قصيرة وحاسمة، متدافعة ومتدفقة في آنٍ، تفيد من الاستفهام والتعجب والتقرير، وترتكز على المجاز والأمثال والتراكيب اللغوية الخاصة باللهجات والشعر العربي، لترسم مشهدًا شعوريًا موازيًا للمشهد الحقيقي وملتصقًا به في نفس الوقت.
الثقافة الكروية
يرى دوان زانج، الباحث في آداب وثقافة اللغة الإنجليزية، أن ثقافة الكرة الإنجليزية الرزينة التي تطبع طريقة اللعب هناك، وكذلك مدارس التعليق، إنما تنحدر عن الثقافة العامة التي تميل إلى الرزانة والكياسة، الناتجة عن مجموعة القيم التي تحاول الشرائح المجتمعية المختلفة أن تتحلى بها؛ لمواكبة الطبقات الأرستقراطية العليا. والتي كان الانتساب إليها يمثل حلمًا لكافة أفراد المجتمع، الذي يرنو إلى صورة الرجل النبيل في عصور الفروسية من القرون الوسطى.
هذا الأسلوب المحافظ المقاوم للتجديد، يمكن تفسيره، حسب أطروحة الكاتب، بأثر جغرافية المملكة المتحدة، التي تقع على هيئة جزر منعزلة عن العالم الخارجي.
يمكنك الآن اختيارُ هدفٍ ما، عاديًا كان أو مميزًا، في أول المباراة أو في أنفاسها الأخيرة، وملاحظة الفرق بين التعليقات عليه باللغات المختلفة.
اختار «ألتمان» مثلًا هدفَ حاتم بن عرفة الأشهر مع نادي نيوكاسل، الذي انطلق بالكرة من منتصف الملعب تقريبًا مراوغًا كل من في طريقه، لينتهي بالكرة في شباك نادي بولتون. وعقد من خلاله مقارنة سريعة بين مدارس التعليق المختلفة من خلال رصد تفاعلهم مع الهدف.
قال المعلق الإنجليزي في نبرة هادئة إنه هدف جميل يشبه هدف ميسي. أما المعلق الفرنسي فقد بدا صوته ناعسًا حتى اهتزت الشباك، ولكن المعلق العربي أسس ملحمة منذ اللحظة التي وصلت فيها الكرة لـ بن عرفة، كرر الاسم مرارًا في نغمة تتصاعد مع كل مراوغة، ولم يكتفِ بسكونها الشبكة وإنما استدعى الشبه المارادوني للهدف، وأكمل مستزيدًا في شرح الهدف ووصفه بكل الأساليب اللغوية.
بالنسبة لكثير من محبي اللعبة، فالتعليق الكروي جزء أساسي من تجربة المشاهدة، قيمة لا يمكن الاستغناء عنها، خاصة وهي تجلب الأموال التي تُضخ للقنوات الناقلة للأحداث الرياضية. سيستمر جنون عصام الشوالي إذن، ولا يبدو أن ذلك سيتغيّر قريبًا.
وكما يقول ألتمان في مقاله: «إن هذا تحديدًا ما ينبغى أن تكون عليه تعليقات كرة القدم، أن يدهَش شخصٌ من عظمة ما يرى، فتنفجر مشاعره بسرعةٍ لا تجاريها حباله الصوتية الملتهبة، فتمتد لحظة البهجة وتطول، حتى بعد أن تسكن الكرة الشباك».
https://www.nytimes.com/interactive/2014/06/19/sports/worldcup/goooooooooooooal.html