أن تخرج في موعد مع نفسك هو أن تمنح روحك فرصة للحديث معك بعيدًا عن ضجيج العالم، وكأنك تلتقي بشخص لم تعرفه من قبل. قد يبدو الأمر غريبًا، بل ربما مثيرًا للسخرية للبعض. ولكن هناك سحر خاص في هذه اللحظة، سحر لا يمكن لأحد أن يدركه إلا من جرّب أن يكون في صحبة نفسه دون انشغال.
إحدى الفلاسفة التي تحدثت عن هذا هو الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين. كان مونتين من دعاة العزلة الاختيارية، يرى فيها فرصة لاكتشاف الذات. كتب قائلًا: “إن لم تستطع أن تحافظ على صحبة نفسك، فكيف ستجد السعادة في صحبة الآخرين؟”؛ ففي هذا القول تلميح قوي إلى أهمية أن يعرف الإنسان كيف يُمتع نفسه، وكيف يقضي معها لحظات من الراحة والصفاء.
حينما تقرر أن تخرج في موعد مع نفسك، فلتعتبره رحلة إلى ذاتك، كأنك تخطط للسفر إلى مدينة لم تطأها قدمك من قبل. فكر، كيف تريد أن تمضي هذا الوقت؟ ربما تبدأ بتحديد المكان: مقهى صغير هادئ، حديقة غنّاء أو حتى رحلة قصيرة إلى البحر. جرّب أن تبتعد عن أماكنك المألوفة، واختر مكانًا يمنحك مساحة للتأمل والتجديد.
يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي: “أعتقد أن كل إنسان يحتاج إلى مكان خاص به، حيث يمكنه أن يفكر ويصغي إلى قلبه.”مكانك الخاص لا يعني غرفة مغلقة بل قد يكون أي مكان تشعر فيه بأنك تستطيع أن تكون على طبيعتك. وما أجمل أن تأخذ كتابًا تحبه، رواية قديمة أو كتابًا تحفيزيًا، وتجلس لتقرأه وأنت تنظر حولك وكأنك تشارك نفسك حكاية جديدة.
في هذه اللحظات قد تجد نفسك تتساءل عن أشياء لم تخطر ببالك من قبل. هل أنت سعيد في حياتك؟ هل تشعر أنك تسير في الطريق الذي تريده؟ عندما تخلو مع نفسك تجد أن الأسئلة تصبح أكثر وضوحًا، والإجابات قد تكون مفاجئة، ولكنها صادقة. في تلك اللحظة، تشعر كأنك تحادث نفسك بشكل لم تقم به منذ وقت طويل، وحديثنا مع أنفسنا عندما لا توصد أصوات أخرى هو أصدق الأحاديث، فهنا عليك أن تراقب صوتك الداخلي وتعرف هل هو صوت لطيف؟ أم صوت قاسٍ؟ صوت مفكر؟ أم صوت قلق؟ فإن الطريقة التي نتحدث بها مع أنفسنا هي أكثر الأصوات تأثيرًا فينا. فإن كان حديثك مع نفسك هو حديث لا تقبل أن تحدث به أحد أصدقائك أو أشخاصك المفضلين، فقد تكمن هنا مشكلة ما، فذاتك أحق بأفضل الأحاديث وألطفها.
إحدى التجارب التي تبعث على الطمأنينة في هذا الموعد الخاص هي تجربة الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو، الذي قرر قضاء فترة طويلة في عزلة اختيارية داخل كوخ بسيط في الغابة، بهدف البحث عن “الحياة الحقيقية”. خلال تلك الفترة، كتب عن لحظات الصفاء التي يشعر بها بعيدًا عن صخب الحياة اليومية، وكيف وجد في وحدته فرصة للتأمل العميق وإعادة تقييم القيم والأولويات. لم تكن تجربته سهلة، لكنه اكتشف جمالًا لم يكن ليتذوقه لو بقي في فوضى الحياة العصرية. فقد يظن الكثيرون أن خياراتهم اليومية في أبسط الأشياء إلى أكبرها هي خياراتهم الشخصية فعلًا، ولكننا جميعًا غافلون عن مدى تأثير كل المؤثرات من حولنا وكيف أن الصوت الجماعي يؤثر في كثير من قراراتنا بشكل غير واعٍ. فكم من مرة انحزنا لفكرة معينة أو اشترينا منتجًا معينًا ثم شعرنا أننا لا نميل لهذه الخيارات ولا نجدها تعبر عن ذاتنا. هنا يأتي خروج الفرد في موعد مع ذاته مفيدًا لتمنحها فرصة تعرف حقًا ما هي حقيقتها؟
وعلى غرار ذلك، يمكن للموعد مع نفسك أن يكون وقتًا للتجربة والمغامرة. اخرج من منطقة راحتك، جرّب هواية جديدة أو مارس نشاطًا لم تفعله من قبل. إن حبك لنفسك لا يأتي فقط من تقدير ما تفعله، بل من اكتشاف جوانب جديدة في شخصيتك لم تكن تعرفها.
هناك شيء ملهم في اختيارك أن تخرج وحدك وتجلس في مكان دون أن تشغل نفسك بالهاتف أو التواصل مع الآخرين. إنه تحدٍّ مع الذات. الكاتب والمفكر الأمريكي رالف والدو إمرسون يرى أن “التأمل في ذاتك هو رحلة اكتشاف لا تنتهي”. تأمل بسيط وأنت تتناول كوبًا من القهوة قد يكون بداية لاكتشاف أفكارك الجديدة، مخاوفك التي تجاهلتها، وأحلامك التي ربما قد أضعتها وسط صخب الحياة.
وفي نهاية هذا اللقاء مع نفسك، قد تجد أنك أصبحت أكثر قربًا منها، أكثر تقديرًا لما أنت عليه، وأكثر فهمًا لاحتياجاتك. ليس هناك شيء خاطئ في أن تجد السعادة في صحبتك لنفسك؛ بل إنها خطوة نحو النضج الشخصي والتوازن النفسي.
فالخروج مع نفسك ليس مجرد فكرة شاعرية، بل هو ضرورة في عالم مليء بالضغوط والإيقاع السريع. ربما قد تكتشف، مثلما اكتشف من سبقوك، أن أجمل رفيق هو نفسك، وأن السعادة لا تأتي من الآخرين بقدر ما تأتي من ذلك السلام الداخلي الذي تجده وأنت وحدك.