أعتقد أنه بمجرد ضغطك على هذا المقال فلا بد أنك وقفت يومًا في حفلٍ، مناسبة عائلية، تجمع وظيفي، وأنت تفكر: ماذا أفعل هنا؟ لماذا لست في المنزل؟ متى سينتهي كل هذا؟ وهي تجربة يمر بها نصف سكان هذا الكوكب.
بادئ ذي بدء: ما هو الانطواء؟ وهل يُعتبر عائقًا اجتماعيًا كما يظن الكثيرون، حتى الانطوائيون أنفسهم؟
الحقيقة هي أن الانطواء، ببساطة كما عرضه عالم النفس الشهير كارل يونج، هو تفضيل للعالم الداخلي على العالم الخارجي. فالانطوائيون يمتلكون عمقًا عاطفيًا وعقليًا وهم قادرون على بناء علاقات قوية ومستدامة. قد يكونون هادئين في التجمعات الكبيرة، ولكنهم يزدهرون في المحادثات الهادئة والعميقة. من المهم أن نضع في الاعتبار نقطتين أساسيتين قبل الانطلاق للإجابة عن عنوان المقال:
-
الانطواء ليس عيبًا أو عائقًا، ولا يجب النظر إليه على أنه مشكلة من الأساس.
-
كل تركيبة إنسانية تحمل نقيضها معها، فكل شخص انطوائي بداخله جانب انبساطي يبحث عن التواصل والاندماج مع الآخر، وكل شخص انبساطي بداخله جانب انطوائي يبحث عن الهدوء والعزلة من وقت لآخر.
تقول الكاتبة سوزان كين، مؤلفة الكتاب الأشهر عن الانطوائيين “الهدوء”:
“الانطوائيون يمكن أن يكونوا سحريين في التجمعات، ولكن عندما يكونوا في البيئة المناسبة.”
وهي النقطة الأولى التي سنبدأ بها الإجابة. تختلف استجابة الأفراد باختلاف طبائعهم مع البيئة التي يتواجدون فيها، فلا يوجد كائن بشري بقدرات هائلة يستطيع الاندماج في كل البيئات. فاحرص أن تتواجد في البيئات التي تحفّز لديك الرغبة في المشاركة والحديث، ولا تشعر بالضغط لتندمج في بيئات أخرى لا تساعدك على ذلك. وتذكّر دومًا: ليست كل الأسماك تسبح في كل البحار والمحيطات.
ثانيًا: يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في مسرحيته “لا مخرج” العبارة الأشهر التي تعبر عما بداخل الكثير من الانطوائيين:
“الجحيم هم الآخرون.”
وقد يكون ذلك صحيحًا عندما يضطر الفرد أن يتواجد مع آخرين يقيّدون من حريته في التعبير عن ذاته أو يفرضون عليه أشياء لا يستطيع تقبّلها. ولكن قد تكون فلسفة سارتر الوجودية مدخلًا مناسبًا للكثير من الانطوائيين؛ فالتركيز على أن كل شخص مسؤول وحر في قراراته قد يساعدك على إحاطة نفسك بمجموعة مختارة من الآخرين الذين تستطيع معهم التحرك والتواصل بحرية وعمق، وتشجعك على ألا تنظر لنفسك كضحية في عالم يُمَجّد التفاعلات الإنسانية إلى درجة قد تصل أحيانًا إلى النفاق.
أما بالنسبة للحكمة الشرقية، فإنها قد تساعدك كثيرًا أثناء تواجدك في التجمعات. فلا تجعل كل وقتك للاجتماعيات. ترمز الفلسفة الصينية (ين | يانغ) إلى التوازن. “الين” هو الجانب العاطفي الداخلي، و*”اليانغ”* هو الجانب النشط والخارجي. فعندما تكون في تجمع ما، تنقّل بين الين واليانغ؛ حيث يمكنك أن تشترك في حوار أو نشاط جماعي لمدة قصيرة، ثم تنسحب لتحصل على بعض الهدوء لمدة قصيرة أخرى. وهكذا سيمر الوقت في توازن بين لحظات الهدوء ولحظات الاستمتاع مع الآخرين.
يمكن للتجمعات أن تكون مكانًا مناسبًا للانطوائيين إذا عرفوا أنها بيئة خصبة للمعرفة المباشرة. بإمكانهم استخدامها كفرصة ذهبية؛ حيث يمكنهم إثراء معرفتهم من خلال التأمل في أنماط البشر وتصرفاتهم وأفكارهم، مما قد يغذي لديهم:
-
الذكاء الاجتماعي
-
حس الفكاهة
-
الأفكار العميقة
جين أوستن، الروائية الإنجليزية التي فضّلت الحياة الهادئة والانطوائية، أخرجت روايات تقوم جميعها على الفهم العميق للعلاقات الإنسانية من خلال تجاربها الواقعية التي حتمت عليها التواجد في حفلات الرقص والزواجات وغيرها.
وألبرت أينشتاين، الفيزيائي الشهير، كان معروفًا بأنه يميل إلى الجلوس في زاوية بعيدة، مفضلًا الملاحظة الصامتة والتأمل في الأشخاص والأفكار من حوله. كان يجد متعة في الملاحظة، ويستمد الإلهام من مراقبة سلوك الآخرين وردود أفعالهم.
ومن تجربتي الخاصة أؤكد لك أنها تجربة فكاهية أيضًا، فالجميع في نهاية الأمر يحاولون مثلك أن يحققوا معادلة الاندماج والراحة، ولكن بطرق مختلفة وغريبة أحيانًا.
وأخيرًا: كن مثل بروست.
مارسيل بروست، الذي كان معروفًا بكونه انطوائيًا، كان يتجنب الحفلات الاجتماعية الكبيرة، ويفضل أن يجد شخصًا واحدًا أو اثنين يمكنه إجراء محادثات طويلة وثرية معهم. كانت هذه الاستراتيجية تسمح له بالاستفادة من التجمعات بطرق تناسب شخصيته وتُجلب له المتعة والراحة.
يمكن أن يكون درس بروست للانطوائيين: لا تحاول أن تكون في كل مكان، بل كن في المكان الذي تجد فيه معنى وعمقًا.
هل تعتقد أنه لو كان بروست اجتماعيًا من الطراز الأول، كان سيقدر أن يكتب تحفته العملاقة البحث عن الزمن المفقود؟
لست بحاجة إلى تغيير طبيعتك كليًا أو التظاهر بأنك شخص آخر لتستمتع بالتجمعات الاجتماعية. يكفي أن تجد طريقتك الخاصة للتفاعل، وأن تحتضن تلك اللحظات التي تُعبّر فيها عن نفسك بحرية وتلقائية.
كما تعلمنا من أمثال بروست وأينشتاين وجين أوستن، قد يكون المفتاح ببساطة في أن تختار بيئتك، وأن توازن بين الهدوء والحركة، وأن تركز على العلاقات التي تحمل معنى وقيمة بالنسبة لك.
ربما تكون الانطوائية أحيانًا هي سر الإبداع والفهم العميق للعالم من حولنا. لذا، في المرة القادمة التي تجد نفسك فيها في تجمع ما، تذكّر أن التجمعات ليست ساحة معركة، بل هي فرصة لاستكشاف الذات، وإيجاد الجَمال في التفاصيل الصغيرة، وحتى لخلق لحظات من السحر في الأماكن التي لا تتوقعها.
افعل ذلك بطريقتك الخاصة، وبشروطك الخاصة، واستمتع بكل لحظة تكون فيها أنت.