على المستوى الشخصي أعتبر هذا الأمر غير قابل للنقاش، فعلى الرغم من شغفي القوي بالنقاش والإقناع إلا أنني أحب أن أترك بعض المواضيع خارج هذه الدائرة. هذه المواضيع التي أضعها تحت مظلة: الذوقيات والتقاليد اللطيفة التي تجعل الحياة ألطف ولا تؤذي أحدًا.
ولكن ها أنا أكتب مقالًا أفصل فيه إجابتي الخاصة عن هذا السؤال:
من يدفع في الموعد الأول؟
الإجابة ببساطة: الرجل.
الإجابة بتفصيل كالتالي:
هنا لا نعني بأي شكل من الأشكال أن هذا أمر يخضع للفرض أو الإجبار، فمجرد فرض شيء ما أو إجبار أحد عليه سيصبح في قائمة المرفوضات أو على الأقل ستزداد المقاومة تجاهه. لذا علينا أن نتذكر دائمًا أننا نتحدث داخل سياق معين وهو: رجل وامرأة ذاهبان لتمضية وقت لطيف بسبب وجود رغبة متبادلة من الطرفين للتعرف على بعضهما البعض، مشاعر إعجاب متبادلة، نية حقيقية للشروع في علاقة طويلة الأمد قد تكلل بالزواج. إذًا لا يوجد هنا أي شعور بالبغض أو النفور أو التوقعات العالية أو الإجبار.
ثانيًا: يمكن الاعتماد في هذه الإجابة على المدرسة التقليدية بالقول إنه: هكذا جرت العادة. أو الاستناد لآراء رجال نبلاء كانوا يستمتعون بتدليل المرأة لأهداف مختلفة. ولكن ستكون هذه إجابة مختصرة وضعيفة، إذًا لننطلق إلى النقاط الأهم.
في الحقيقة، دفع الرجل للفاتورة في الموعد الأول يعود بالنفع عليه قبل أي شيء آخر؛ لأنه يترك انطباعًا قويًا لدى المرأة عن شخصيته كرجل يتميز عن غيره من الرجال المحيطين بها. فالمرأة، بشكل عام، تقارن بين من تقابلهم وبين من تعرفهم من أقارب، زملاء، أو حتى عرسان محتملين. لذا، فإن لفتة بسيطة مثل دفع الفاتورة تعتبر خطوة جريئة تنم عن جوانب مهمة من شخصيته، مثل اللباقة والكرم، وهما صفتان أساسيتان تبحث عنهما المرأة في الرجل الذي قد تفكر أن ترتبط به.
في هذه الحالة، لا يتعلق الأمر بمبلغ الفاتورة سواء كانت تتألف من ثلاثة أرقام أو أربعة، بل يرتبط بمدى استعداده للتعبير عن تقديره لها ومبادرته لتوفير جو مريح في اللقاء. المرأة تهتم بأن تكون بصحبة رجل يعرف كيف يُظهر اهتمامه عبر تصرفات بسيطة لكنها ذات دلالة قوية، مثل الكرم. وهذه الصفة بالذات ليست فقط في المال، بل تعكس شخصيته بشكل عام؛ فالرجل الكريم يُعتبر كريمًا في اهتمامه وتفانيه ووقته، وهي جوانب تعزز من قيمة العلاقة وتمنحها أساسًا قويًا.
“إن الكريم إذا ما كان ذا نعمٍ
بانت على وجهه آثارها نعمُ”
فالكرم من صفات النبلاء، وعندما يبادر الرجل بكرمه في الموعد الأول، يُظهر لها جوانب من شخصيته تجعلها تشعر بالاحترام والأمان، مما قد يكون خطوة أولى نحو بناء علاقة متينة ومليئة بالثقة المتبادلة. وفي حالة لم يلتق الرجل والمرأة مرة أخرى بعد هذا الموعد الأول، فستبقى قصتها معه ذات نهاية سعيدة ونبيلة، وإن امتد هذا الموعد إلى سلسلة مواعيد غرامية مدى الحياة فستبتسم الزوجة في كل مرة تتذكر فيها المرة الأولى التي خرجت فيها بصحبة هذا الرجل الكريم.
قبل الانتقال للنقطة الثالثة: الكرم المادي لا يغني البتة عن أنواع الكرم أو اللباقة الأخرى، فإذا لم يسبق خطوة دفع الفاتورة مواقف كثيرة عن الكرم في الاستماع، الكرم في الحديث، الكرم في التعامل مع النادل مثلًا، فلن تكون خطوة دفع الفاتورة سوى حركة تقليدية معتادة.
النقطة الثالثة التي تجيب على هذا السؤال تتعلق بجانب عميق في تجربة المواعدة الأولى. المرأة لا تنسى الرجل الذي أسهم في تدليلها ولو لبعض الوقت، لأن هذه اللفتة تمنحها شعورًا خاصًا وثقة بأن من يجلس أمامها قادر على أن يهتم بتفاصيل صغيرة ولكن مؤثرة. علينا أن نضع في اعتبارنا السياق الكامل لهذا اللقاء؛ فهو ليس اجتماع عمل، وليس غداء عاديًا بين زملاء أو لقاء بين صديقين. هذا لقاء غرامي، وكل امرأة ترغب في الخروج منه بشعور أنها كانت مدللة.
وهنا يأتي دور الرجل في تقديم هذا الشعور، لأن نية الرجل في تدليل المرأة تعني ببساطة أنه شخص يُحتمل الاعتماد عليه في المستقبل. عندما تظهر المرأة اهتمامًا بمنحها هذا الشعور، فهي تبحث عما يشير إلى أنه سيكون زوجًا مراعياً وأباً حنوناً. دفع الرجل للفاتورة في هذه اللحظة يمثل مسؤولية أول خطوة، وهي لفتة بسيطة ولكنها معبرة تعكس استعداده لتحمل مسؤوليات أكبر في المستقبل.
وقد أثبتت الأبحاث في علم النفس الاجتماعي أن الإيماءات الصغيرة التي تعبر عن الكرم والتقدير تترك تأثيرًا عميقًا على المرأة، خاصةً في مراحل التعارف الأولى. وفي موقف شهير من حياة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، كانت أول خطوة منه في موعده الأول مع زوجته ميشيل هي أن يتحمل جميع تكاليف الموعد. تقول ميشيل في سيرتها الذاتية Becoming إنها شعرت منذ اللحظة الأولى أنها مع رجل يمكن الاعتماد عليه، حيث لم يظهر ذلك فقط في دفع الفاتورة بل في اهتمامه الدقيق بجعل الموعد مميزًا ومريحًا.
في النقطة الرابعة، أود أن أروي تجربة شخصية تُعبر عن رؤيتي لدفع الرجل للفاتورة، وكيف يمكن لهذا التصرف أن يكون لفتة نبيلة. نحن من عائلة صعيدية، ونادرًا ما تُطرح مسائل مثل هذه للنقاش بين الرجال، فالتصرفات الكريمة تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من السلوكيات المتوقعة. لكن في إحدى المرات، جاءني أخي ليسألني عن موقف محيّر له؛ فقد طلبت منه زميلة في العمل أن يخرجا معًا بشكل منفرد، بعيدًا عن لقاءات مجموعة الأصدقاء الأكبر، كنوع من التعرف الشخصي عليه.
كان تردده في أن إصراره على دفع الفاتورة قد يُشعرها بالإحراج أو يجعله يبدو كمن يتشبث بتقاليد قديمة، فأراد نصيحتي. أجبته ببساطة: يجب عليه أن يُصرّ على الدفع، حتى لو كانت هي من طلبت اللقاء. في مثل هذا الموقف، يكون إصراره على دفع الفاتورة تعبيرًا عن شهامته وكرمه، وردًا لبقًا على جرأتها في المبادرة. وقد اتبع نصيحتي، وبالفعل، قال لي بعد اللقاء إنها بدت سعيدة وممتنة لهذا التصرف، وأنها تعاملت معه بلطف وتقدير بعد ذلك. ورغم أن هذا اللقاء لم يكن موعدًا عاطفيًا، إلا أن موقفه اللطيف أضفى لمسة من الاحترام المتبادل وأكد على قيمة النبل.
مثل هذه المواقف تجعل النساء يشعرن بالسعادة والأمان، وأنهن في عالم يتميز بالشهامة والنبل. وفي رأيي، يُعدّ الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة إذا اختارت المرأة مكانًا يفوق ميزانية الرجل، فهنا تبرز أهمية الواقعية. لأن التصرف النبيل ينبغي أن يكون ضمن إمكانيات الشخص، حتى لا يتحول إلى عبء أو مصدر ضغط قد يؤدي إلى نفور الرجل من الطرف الآخر الذي تسبب له في إحراج مالي أو خرق للميزانية.
يجدر بالذكر أن الكرم يجب أن يكون متبادلًا، فلا شيء يمنح اللقاء طابعًا جميلًا أكثر من العطاء المتبادل بين الطرفين. فحتى بعد انتهاء الموعد، سواء كان ذلك عشاءً أو مجرد تبادل لمشروب كالقهوة أو العصير، يُفضّل أن تبادر المرأة بإظهار امتنانها، كأن تعرض تحمّل تكلفة الحلويات، خاصة إذا كانت تعتقد أن هذه هي المرة الأخيرة لهما معًا. أما إذا اتفقا على لقاء آخر، فبإمكانها أن تُبدي استعدادها لدعوته في المرة القادمة. ففي النهاية، الكرم يُسعد الجميع، رجالًا ونساءً، ويجعل اللقاء أكثر دفئًا وودًّا. وحتى الرجل، مهما بدا تقليديًا في مبادرته الأولى، فإنه يستمتع بشعور أن يتم تقديره ودعوته هو أيضًا.
التوقعات بأن يكون الرجل هو المبادر لا تعني إطلاقًا طمعًا فيما يملك أو إجبارًا عليه، فكل ما نتحدث عنه في نهاية الأمر هو مشروب أو وجبة. وهنا أود العودة إلى نقطة تقاليدنا الشرقية التي أعتز بها، حيث نجد اهتمام الكبير بالصغير، ومساندة الرجل للمرأة، وحرص الغني على الأقل حظًا. وتظل مشادات الدفع بين الأصدقاء والأهل عند الكاشير، في سباقٍ جميلٍ لدفع الفاتورة، من أبهى ملامح كرمنا العربي.
على الجانب الآخر، قد تكون بعض المفاهيم الغربية، التي تجعل من اللقاءات الغرامية أمرًا عابرًا وغير جدي، قد أثرت على هذه المبادرات، حيث أصبحت تكلفة كل لقاء عبئًا مع تكرارها. لكن في ثقافتنا الشرقية، تظل اللقاءات بين الرجل والمرأة تُعطى قدرًا من الجدية والاحترام، مما يجعل مبادرة الرجل بالدفع في الموعد الأول تصرفًا لطيفًا ينم عن تقديره للطرف الآخر ويعزز من قيمة العلاقة بشكل جاد ومشرق.