⁠الخامسة عصرًا
١٠٩٨ كلمة
٠ تعليق

تنويه: تشعر كاتبة هذا المقال بأنها ليست أفضل من يتحدث عن هذا الأمر، لكن أحدًا في الوقت نفسه لا يتحدث عنه من الزاوية التي تريد هي الحديث منها. لذا فهي تدعو القارئ لأن يتيح لنفسه فرصة قراءة انطباعات شخص غير رياضي بالمعنى المعروف عن الرياضة.

بدأت تجربتي مع الرياضة منذ عامين فقط، وأعني بذلك التجربة الجادة التي أعتقد أنها تؤهلني قليلاً لكتابة مقال عنها. تفاديت طوال طفولتي ممارسة أي رياضة، رغم حرص والدي على تعليمنا جميعًا، أنا وإخوتي، بعضًا من أنواع الرياضة الأساسية لأي طفل في محيطي وطبقتي الاجتماعية. لكنني كنت أذهب إلى البحر لأبني قلاعًا من الرمال بدلًا من تعلم السباحة، وكنت أستمتع بالجري والتعرف على السائرين على امتداد الكورنيش، بدلًا من أن أتعلم ركوب الدراجة، وأنصّب نفسي حكمًا للمنافسات بدلًا من المشاركة في الملاكمة.

ليس السبب في ذلك أنني فتاة، تميل – كما يرانا التصوّر الشائع – إلى الابتعاد عن المنافسة وتفضيل الهدوء، لأن أختَيّ الأصغر مني، وهما من نفس البيت والبيئة، تفوقتا عليّ كثيرًا في هذه الأمور. الحقيقة ببساطة، أنني أقنعت نفسي منذ سن صغيرة بأنني سأكتفي بالبراعة في كل ما يتطلب مجهودًا عقليًا وذهنيًا، فنشأت بعد أكثر من 25 عامًا فتاة ذات علامات دراسية عالية، وشهادات علمية في المجالين العلمي والأدبي، وحصيلة ضخمة من الكتب، لكنها في الوقت نفسه غير قادرة على صعود الدرج بسهولة، ولا على لعب الاستغماية مع أطفال العائلة، بل وأجد بعض الصعوبة في التنفس والتركيز العميق.

لعدة مرات، حاولت الذهاب إلى الصالات الرياضية مثلما يفعل كثير من الناس، ولكنني لم أستطع الالتزام، حتى بعدما وضعت أهدافًا يراها البعض مغرية ومجدية:

سألعب رياضة لزيادة الكتلة العضلية!

سألعب الرياضة للحصول على روتين صحي!

ما استغرق وقتًا طويلًا لإدراكه هو أنني لا أهتم لحجم كتلتي العضلية بأي شكل من الأشكال، كما أنني لا أظن نظام حياتي غير صحي لدرجة تجعلني أجرّ نفسي مجبرة على الصراع مع أجهزة حديدية، لساعة أو ساعتين، أو ربما أكثر كل أسبوع.

تجاهلت الأمر كله، ولم يعد يخطر ببالي، حتى دخلت مساحة العمل كإنسانة وموظفة، وعرفت بالطريقة الصعبة أن ضغوط العمل وتكدس الأفكار، وما ينتج عن كل ذلك من تشتت ذهني وصعوبة في التركيز، بل وحتى ذلك الضعف البسيط في الذاكرة… كل هذا لن يجدي معه قراءة الكتب التي تخبرني عمّا يجب أن أفعله لأرتب أفكاري، أو كيف أصمم هيكل يومي لأسيطر عليه، ولن يجدي معه شرب المزيد من القهوة، بل ولا النوم لفترات أطول.

بدأت الخطوة الأولى بالصدفة. استمعت لمحاضرة عن المشي عبر اليوتيوب، وأدركت فورًا أن هذا الكلام يلمس شيئًا بداخلي. كان المشي بداية عظيمة في رحلتي الرياضية الجديدة، لم يكن يتحدث إلى الجانب الجسدي مني فحسب، حيث أشعر بأنني أكثر خفة، وبعضلاتي وهي تكتسب مرونة أكثر فأكثر، يومًا بعد يوم، لكنه كان يخاطب الجانب الروحي مني كذلك، متهيئًا لي فرصة كبيرة لتهدئة تروس عقلي وهي تتحرّك، ومن ثم يتيح لي القدرة على رؤية الأفكار والمواقف والأشخاص من مسافة تمكّنني من التعامل مع كل شيء.

مع المشي، فهمت تمامًا وصف الرياضة كـ**”سماد للدماغ”**، الذي استخدمه الدكتور جون راتاي المتخصص في طب النفس العصبي. الحركة قادرة على تعزيز نمو الخلايا العصبية وتقويتها. يبدو أن “في الحركة بركة” فعلًا، ولم يكن الأقدمون يكررون كلامًا بلا معنى.

هناك أمر آخر لفت نظري حين بدأت أقرأ أكثر عن الرياضة والحركة، وهو ببساطة تكرار الإشارة لها في الكثير من الأدبيات الفلسفية. عرفت أنني لم أكن أكره الرياضة لذاتها، كما كنت أقول سابقًا بثقة لا أعرف مصدرها، ولكنني كنت أكره ما أراه منها: تحويلها إلى ممارسة تنافسية دون أي بُعد نفسي أو أخلاقي.

وحتى في الأدبيات الدينية، تتكرر الرياضة والحركة والنشاط الجسدي بوصفه أداة يُهذّب بها الله الرسل ويجهزهم من خلالها لاستقبال الوحي. لا يحدث الوحي ولا الإلهام من شيء باطني في النفس، لا يوجد نبي يجلس لينتظر الوحي دون أن يفعل شيئًا ويتحرك من مكان لمكان. بالتدريج، وجدت نظرتي تتغيّر تمامًا.

كانت خطوتي الثانية مع الرياضة هي ركوب الخيل. فتحت بابًا جديدًا وقررت التعامل مع كائن آخر لا يعقل الأشياء كما أعقلها، ولا يتعامل مع الناس والمساحات كما أفعل. الخيل حيوان ذو أنفة وكبرياء شديدين، ولا يقبل أن يتعامل راكبه معه كحيوان قابل للانقياد. وقد يظن من يفكر في ركوب الحصان أنه سيكون مسيطرًا بالقدر الكافي من القوة الجسدية، لكن هذا الحيوان هو الخيار الأمثل لوضع الثقة بالنفس، الشجاعة، التحكم تحت الاختبار.

بعد عام من ركوب الخيل بشكل منتظم، تبخّر كل ما ظننت أنني أعرفه عن نفسي. رياضة تتطلب حضورًا جسديًا وذهنيًا، تعزز ما يعرف بـ**”التحكم التنفيذي للدماغ”**، وهو النظام الذي يربط بين التحفيز الذاتي والتخطيط والتنظيم. فيلاحظ على ممارسي هذا النوع من الرياضة أنهم قد لا يتمتعون بكتلة عضلية ضخمة، ولكن بالتأكيد سيلفت انتباهك قدرتهم على حل المشكلات وإنجاز المهام بأذكى طريقة، التعامل مع الناس بشكل متزن، وأنهم يتنفسون بشكل رائع!

نعم، هذه مفاجأة عجيبة. اتضح أنك لن تستطيع البقاء على ظهر حصان أكثر من عشر دقائق، إذا فشلت في ضبط إيقاع رئتيك على إيقاع أقدامه.

وبالحديث عن التنفس، قررت استكشاف رياضة جديدة: السباحة. هذه المرة، لم يكن الدافع هنا التجربة، ولكن كسر حاجز نفسي، وهو الخوف من الماء. كطفلة تعرضت للغرق مرتين في البحر الأبيض المتوسط، قررت أنني لن أعيش مع هذا الخوف من الماء أكثر من ذلك، فانطلقت لتعلّم السباحة. وأظن أن البروفيسور تشارلز هيلمان كان يقصد السباحة عندما قال إن النشاط البدني يمكن أن يكون أحد أفضل الأدوية للدماغ.

لم تعالج السباحة خوفًا كبيرًا بداخلي فحسب، بل ضاعفت من قدرتي على التنفس، وجعلتني أنتظر وقت النوم بعدما كنت أتوجس من وحش الأرق، ووفرت عليّ التعامل مع أوزان ضخمة. خاطبت السباحة كل عضلات جسدي، وأشعرتني بحرية لا أعيشها فوق مستوى سطح البحر، وأعرف الآن أنني لن أمضي جل وقتي أبني قلاعًا من الرمال عندما أذهب للبحر مرة أخرى.

لا أريد أن أتذكر شخصيتي قبل ممارسة الرياضة، ولكن سأذكر كل الخرافات التي كنت أرددها لنفسي قبل ذلك:

“ستأخذ الرياضة من طاقتي المخصصة لأداء مهام أخرى!”
ما حدث كان العكس. كانت الرياضة هي المحفز الرئيسي للطاقة لباقي المهام.

“الرياضة تحتاج إلى وقت مخصص وتمرين مشدد!”
خطأ تمامًا، فأنا كما قرأت لم أبدأ رحلتي إلا مؤخرًا ولم أحتج لشيء سوى الالتزام والاستمرار.

“الرياضة تحتاج إلى مدة زمنية طويلة!”
ما رأيك إذا علمت أنني لا أمارس أيًا من هذه الرياضات سوى ساعة واحدة في الأسبوع، والنتائج مذهلة؟

ليس هذا مقالًا عن الفوائد الصحية للرياضة. وليس الغرض أن تقرأ هذا الكلام فتفكّر في أن الرياضة أمر صحي ينبغي عليك أن تفعله أكثر (هذا صحيح، لكنه ليس موضوعنا). الفكرة التي أريد أن تحملها معك خارج هذا المقال هي نفسها جوهر علاقتي بالرياضة: ألا يحرم المرء نفسه من خوض تجربة معينة، فقط لأنه لم يُعجب بالطرق المتاحة إليها على الخريطة. لربما تعجبك البازلاء مطبوخة بطريقة أخرى، وتكون الحاجة على صواب.

ما أقصده، أنه في النهاية يمكنك دائمًا البحث عن طرق بديلة، أو حتى البدء في تمهيد دروب جديدة لنفسك وللآخرين. الوجهة النهائية في هذه الحالة ضرورة وليست رفاهية، ولكن الطريق المؤدي إليها ربما يكون أكثر متعة مما تتوقع.

شارك هذا الـمقال