⁠الخامسة عصرًا
٦٣٦ كلمة
٠ تعليق

“طُبِع الإنسان على حب الإخبار والاستخبار”

في رسالته المعروفة باسم (كتمان السر)، يسطر أبو عثمان الجاحظ هذا المبدأ البشري، الملتصق بالطبيعة البشرية، من حب الناس للحكايات. سواء كانوا راوين لها، أو مستمعين إليها.

ولولا حلاوة الإخبار والاستخبار عند الناس لما انتقلت الأخبار وحلت هذا المحل.

ومزاولة الجبال الراسيات عن مكانها، أيسر من مجاذبة الطباع.

** ** ** **

في القرن الرابع الهجري، ببغداد، أراد أبو الوفاء المهندس أن يجمع بين أديب بغداد في ذلك الوقت وفيلسوفها، أبي حيان التوحيدي، وبين الوزير أبي عبدالله العارض، وزير ملك البويهيين صمصام بن عضد الدولة..

توطدت العلاقة بين الاثنين وطالت جلسات السمر حتى امتدت إلى سبع وثلاثين ليلة، يطرح فيها الوزير أسئلته ومواضيع اللقاءات، ثم يسرد أبو حيان ما عنده فيها من الرأي.

انتهت الليالي.. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد.

دعا أبو الوفاء صديقه لعمل ما يشبه الحوار القصصي تكون فيه تلك الليالي هي المحور الأساسي، ليخرج لنا أبو حيان التوحيدي واحدًا من أهم كتبه وأكثرها ثراءً: الإمتاع والمؤانسة. هذا الحدث بتراتبيته يكاد، في رأيي، يمثل النواة الأولى لعمل اول برنامج حواري قصصي.

** ** ** **

في عام ٢٠٠٤ كانت خرج البودكاست إلى العالم للمرة الأولى.

محاور وضيف وجهازا ميكروفون.. وحكايات مسترسلة..

هكذا كان الأمر غالبًا، بمنتهى البساطة.

يتحدث فان جونز، أحد مؤثري عالم البودكاست السياسي عن سحر هذا العالم: “لقد كان سرد القصص الصوتية والسرد الشفوي أقدم شكل من أشكال التواصل”. لكن عالم البودكاست ما زال يتمتع بالبراءة والوضوح الكافي لجذب المستمعين.

منتدى امازون

لم يكن البودكاست صناعة رائدة جاذبة للاستثمار في البداية، فالشاشات هي الحصان الرابح دائما.. تُشعل ثورات، وتغطي أخبارًا، وتجعلك دائما مشاهدًا فاعلًا في قلب الحدث، بالصوت والصورة.

لكن عام ٢٠٢٠ جاء ومعه جائحة كورونا بدأت الهجرة من الشاشات الرقمية إلى المحطات الصوتية الإذاعية، ونفخت في صناعة البودكاست الروح من جديد فنشطت من عقال.

تتحدث الدراسات عن اكثر من ١٠٠ مليون مستمع لحلقة البودكاست في الولايات المتحدة والعدد قابل للزيادة بصورة دائمة مع تزايد هجرة الشباب من الشاشات وضوضائها إلى هدوء الإذاعة وحميمية الاستماع.

والآن.. بعد مرور ثلاث سنوات على البعث الثاني للبودكاست صار عندنا حالة من السيولة البودكاستية

مقدم البرنامج التليفزيوني هو صاحب برنامج في الراديو هو المحاور في آخر اليوم لحلقة البودكاست والمشاهد/ المستمع صار أسيرا عند عدد من المذيعين أكثرهم منعدمي الموهبة، كثيري الثرثرة.

في حلقة بودكاست، حظيت بانتشار وسع، تحدث فيه كابتن منتخب مصر السابق أحمد حسام ميدو عن حياته الاحترافية، مضحك جدا صك هذا المصطلح على تاريخ ميدو تحديدا، ورغى وأزبد كثيرا جدا كعادته وهو للأمانة موهوب في الحكي، لكن يفوته كثير من التفاصيل.

تحدث ميدو عن حكاية حسام حسن مع قدمه المصابة، وعن مسيرة حسام غالي في توتنهام الإنجليزي.

ببحث بسيط ستجد أن حسام حسن نفى حملة وتفصيلا ما قاله ميدو، وأن حكاية حسام غالي لم تحدث، وأن ميدو كعادته يخترع الحدث ويعيش فيه حتى يصدقه فيصير مسلّما عنده.

الفكرة هنا أنه لا يوجد مجال في هذه المساحة للتدقيق المعلوماتي، ولا للتأكد مما يقوله الضيف، أو حتى المحاور الذي يسيطر على الحديدة كما يقول التعبير الدارج. ومع كل هذه الحلقات من البودكاست، تصبح الأخطاء أكثر وأعمق، وربما أخطر، في أمور تتجاوز الكرة وصراعاتها إلى التأثير السلبي على حياة من يستمعون إلى ما يُقال من هراء.

يبرز منتدى الشارقة أن البودكاست العربي في صعود مستمر منذ العام ٢٠١٩ وحتى الآن هناك ما يزيد عن ٤٣٠ بودكاست عربي، مئات وآلاف الحلقات، وملايين المستمعين..( السعودية في المقدمة بأكثر من ٥ ملايين مستمع)

حلقات طويلة تنزع عن البودكاست أبرز صفاته، وهي الحميمية بين الضيف والمستمع.

خذ مثالا مثلا على أشهر حلقات البودكاست السعودي مع ياسر الخزيمي الحلقة تتجاوز الثلاث ساعات.. اقتطع منها مقاطع لتلبي رغبة الحطجمهور في الذاتية ونفخ الأنا والاعتداد بالنفس والحلقة تمتلئ بالفوائد لكن مغالطاتها كثيرة، والمأزومون النفسيون كثر. لعل هذا يدفعنا يوما للحديث عن حالة السيولة في التشخيص النفسي.

في تقرير لمجلة علم النفس قالت دراسة أن الأشخاص الذين يستمعون لموسيقى قبل النوم مباشرة اكثر عرضة للإصابة بما أسمته مرض دودة الأذن، وأن هؤلاء الأشهاص يعانون من اضطرابات النوم أكثر من غيرهم.

عزيزي

ابتعد قليلا وأرح أذنك

واختر ما تستمع إليه.

شارك هذا الـمقال