⁠الخامسة عصرًا
١٠٢٨ كلمة
٠ تعليق

جلستْ ناتاليا ذات صباحٍ وبدأت تعزفُ مقطوعةً على البيانو، باغتها شعورٌ -فور أن شمَّتْ رائحة البيانو الخشبية- كأنها سافرت عبر الزمن، وعادت تلهو إلى أشجار الجوز في حديقة والدها. هل كان البيانو مصنوعًا من أشجار الجوز؟ لا تدري، لكن ذلك لم يمنعها من أن تعود بذكرياتها إلى طفولتها، حين كان تمشي بحذرٍ أسفل تلك الأشجار، باحثةً عن الجوز المتساقط، وكأنها الآن، وهي أمام البيانو، تلمسُ في يدها قشور الجوز الصلبة، وتشعر بأنها على وشك أن تكسر واحدة. ما حدث مع ناتاليا كوسيركوفا، الباحثة النرويجية المتخصصة في تعليم وتطوّر الأطفال، يؤكد ما يمكن أن نشعر بالدهشة منه: هناك ارتباط وثيق بين الذاكرة وحاسة الشم.

تتوالى المفآجات التي تحكي عنها ناتاليا في مقالٍ نُشر على موقع (aeon)، تقول إنها وفريقها البحثي في جامعة ستافنجر بالنرويج، حاولوا البحث عن أساليبَ جديدة لإثراء عملية التعلّم ترتبط كلها بالروائح وحاسة الشم. كيف يمكن توظيف هذه “الحاسة المُهمَلة”، حسب وصفها، في تعزيز انتباه الأطفال ومضاعفة استمتاعهم بالحكايات، وتحويل عملية التعلّم التي تتسم بالصرامة والقواعد إلى عمليةٍ ثريةٍ بالروائح والسفر عبر الخيال.

تُظهر الأبحاث التجريبية التي أجرتها أن الأساليب الشائعة حاليًا والمستخدمة في الكتب الرقمية والورقية، سواءً الصور المتحركة أو زاهية الألوان، أنها لا تشجِّع على التعلم، بل تُعيق القراءة العميقة للصغار وتجعلها شيئًا يشبه عرضًا إعلانيًا يضجُّ بالأجراس والأصوات. أما الرائحة، وهي العنصر الذي يذهلها ويحرِّكُ أبحاثها، تحفّز القراءة العميقة.

ربما يُثير فيك هذا الكلام حنينًا إلى الكتب الورقية، أنك تكره القراءة على جهازك اللوحي لأنك تُريد لمس الورق وشمّه. لكن يتوقف تفكيرك عما تفعله هذه الحاسة عند هذه النقطة. أجرتْ ناتاليا استطلاعًا شمل ألف أبٍ وأم لتستكشفَ آراء الآباء عن الكتاب المثالي الذين يودون شراءه لأطفالهم. علقت الأغلبية أن أهم عنصرين هما الصور الجميلة وملمس الكتاب، لم تدخل الرائحة مجال التفكير إلا بشكلٍ سلبي، إذ علَّقَ البعض أن بعض الكتب لها رائحةٌ صناعيةٌ كريهة ينبغي التخلّص منها لأنها تقفُ في طريق القراءة الممتعة. لا يتوقف الأمر على الأطفال أو التعلُّم؛ تُظهر الدراسات التي أجريت على البالغين والحيوانات، أن للروائح تأثيرًا هائلًا على إدراكنا بطرق أعقد مما نتخيّل، وتُثير ذكرياتٍ ومشاعر مرتبطة بالأماكن من حولنا.

تنبُّع العلاقة بين التعلم وحاسة الشم في الأساس من الروابط المعقدة بين الانتباه والذاكرة والشم. كيف يحدث هذا الرابط؟ تشير الدراسات إلى أن مناطق الدماغ، مثل القشرة الجبهية الحجاجية (the orbitofrontal cortex)، تتفاعل مع روائح بعينها، وتنشطُ حسب إن كانت الرائحة جميلة أو كريهة، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى الانتباه الحاد. لذا، فإن مشروع الباحثة ناتاليا يهدف إلى وضع إطارٍ للروابط والروائح معًا، ودمجها وآليات التعلم (مثل التركيز أو التفاعل) ونتائج التعلم (مثل القراءة أو تعلم اللغات).

تتساءل ناتاليا، كونها متخصصة في تطوير تعليم الأطفال: لماذا تظل عوالم الرائحة حكرًا على المتخصصين في صناعة العطور أو خبراء الشم عامةً؟ لماذا لا نفتح هذا العالم أمام الأطفال ليستكشفوه؟ ليعرفوا الروائح التي لا تعد ولا تحصى من حولهم ويحفظوها في ذاكرتهم ويستخدموها في إثراء أيامهم العادية؟

نستطيع، نحنُ البشر، تمييز “تريليون” رائحةٍ فريدة من نوعها وفقًا لحسابات فريق من جامعة روكفلر في نيويورك في عام 2014. ومن خلال عقد مقارنةٍ سريعة بحاسة النظر، تستطيع العين رؤية حوالي 100 مليون لون فحسب. أنوفنا هي ما يُميزنا فعلًا؛ تنشأ حساسيتنا للروائح من وجود أربعمئة مُستقبل للرائحة في الأنف. ورغم أن بعض الأبحاث شككت في دقة هذا الرقم بالتحديد، لكنه لا ينفي روعة حاسة الشم لدينا، الحاسة التي نُهملها وننساها في حياتنا أو في الطريقة التي نتعلم بها ونعلّم بها أطفالنا.

إن دخلت مكتبة، فستجد أن معظم التركيز ينصبُ على حاستي السمع والبصر؛ الإضاءة مناسبة، والأصوات العالية ممنوعة، والكتب منسقّة بشكل جمالي ومريح للعينين. تتبع الكتبَ النهج نفسه سواءً في تصميمها أو تركيزها على الصور ووضوح ألوانها وجاذبيتها. لا ننفي أهمية العامل البصري بالطبع، لكن لماذا نرضى بعيش حياةٍ بجودة متوسطة رغم أن جودةً ثلاثية الأبعاد متاحةً إن فعّلنا حاسة الشم؟

تشير دراسة ناتاليا إلى أن الرائحة يمكن أن تلعب دورًا في القراءة، خاصة حين تتعلق بتذكر التجارب الشخصية والقصص التعبيرية. أظهرت الدراسات التي أجريت على البالغين أنه عندما ينتبه القارئ إلى الروائح في الكتاب الذي يقرأه، فإن ذلك يرسم صورًا ذهنية في ذهنه، ويُفترض أن مثل هذه الصور الذهنية تُغمِس القارئ في القراءة أكثر وتُضاعف ثراء تجربته. حين أجرى الباحثون دراسةً تجريبيةً مع البالغين باستخدام كتاب يحتوي على روائح مدمجةٍ فيه، أظهرت النتائج أن الروائح ساهمت في جعل القراءة أسهل وأمتع وحسَّنت فهم المحتوى.

أما بالنسبة للأطفال، تنطلق الفرضية الأساسية من أن إضافة المحفزات الشمية سيعزز عملية التعلم. عندما يواجه الطفل روائح غير متوقعة أثناء القراءة، قد يولِّد هذا مشاعر المفاجأة والفضول، ما قد يجذب انتباههم أكثر فيستغرقون في القراءة بيسرٍ وسلاسة، وقد يشجعهم أيضًا على إيلاء اهتمام أكبر للنص، مما يؤدي إلى فهم أفضل للمعلومات.

تدور الفكرة حول تمرين حاسة الشم لدى الطفل، لأنه كما نتعلّم قراءة الحروف وفهم الصور، فبإمكاننا أيضًا فهم الروائح وتحليلها. كيف تمّرن هذه الحاسة عند طفلك أو حتى عندك؟ أولًا، بالمشاركة في الأنشطة الحسية، أي تجربةً تحتوي على شم عناصر مختلفة، مثل الملصقات أو أقلام التحديد ذات الروائح المميزة. لا تحفز هذه الأنشطة حاسة الشم فحسب، بل تعزز أيضًا التطور المعرفي والحسي. أيضًا ممارسة الطبخ أو الخبز نشاطٌ ييقظ حاسة الشم. وهذا لا يعرّض الطفل لروائح مختلفة فحسب، بل يوفر أيضًا فرصًا قيمة للتعلم العملي والاستكشاف الحسي.

ثانيًا، استكشاف الطبيعة. اصطحب طفلك في نزهات في الطبيعة سواءً في الحدائق العامة أو مغامراتٍ في الهواء الطلق، مثل حدائق الحيوانات، تُساعد مثل هذه التجارب على اكتشاف روائح ترتبط بصورٍ ذهنيةٍ معينة، تُثري المُخيلة خلال عملية القراءة والتعلم. يمكنك كذلك دمج الروائح في اللعب، مثل لعبة الغميضة لكن بتحديد روائح معينة والبحث عنها، أو أن يحاول الطفل تحديد ماهية الأشياء من حوله وهو معصوب العينين. تحوّل هذه الأنشطة عملية الشم ممتعةً وجذابة، وتُتيح له عالمًا جذابًا ربما لم يفكر في استكشافه من قبل.

ربما نصحك أحدهم وأنت تستعد لامتحانٍ ما أن عليك اعتياد رائحةٍ بعينها خلال استذكارك، ثم شمها قبل الامتحان. هذه نصيحةٌ حقيقية، إذ تشير الأبحاث إلى أن حاسة الشم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة، مما يجعل الرائحة أداةً قوية للتعلم. حين نعمل تنشيط هذه الحاسة في أطفالنا، فإننا نشاعدهم على تشكيل روابط عصبية أقوى تساعدهم في معالجة المعلومات واسترجاعها. بالإضافة إلى إن دمج أساليب التعلم ذات الروائح المتنوعة في القراءة والمدرسة فقد يحوّل هذا الدمج التعلم إلى عمليةٍ جذابةٍ وغامرةٍ وأبعد ما تكون عن الروتينة.

المصادر:

How smells can boost children’s learning and pleasure | Aeon Essays

Aromatherapy facts and fiction, Rachel S Herz. International Journal of Neuroscience.

Why taste and smell are important? ChildPsych.

شارك هذا الـمقال