عندما بدأت العمل من المنزل، كان الأمر بمثابة حلم تحقق. شعرتُ وكأنني أخيرًا تحررتُ من ضغوط المكاتب وصخب الزملاء؛ أصبحتُ أستيقظُ صباحًا، أبدأ يومي دون تسرّع أو عجلة، ومع الوقت أصبح لي روتيني الذي يبدأ قبل موعد العمل، وهذا كان شيئًا شبه مستحيل مهما استيقظت باكرًا في الأيام التي كنت أذهب فيها للمكتب. مع الوقت، أصبح العمل من المنزل ليس مجرد خيارٍ أو ضرورة، بل نمط حياة. لكن هذه الحرية الجديدة لم تأتِ دون تحديات؛ إذ شعرت أحيانًا بالعزلة والانفصال عن العالم. كنت أبحث عن طرق للحفاظ على صحتي النفسية، ورأيتُ نفسي أعود إلى قصص بعض المفكرين والفنانين الذين سبقوني في تجربة العيش والعمل في بيئاتهم الخاصة، لأنني طالما كنت أجد حياة الكُتاب ملهمة لي، وكانت تخدعني صورهم على مكاتبهم في المنزل بكامل أناقتهم، وأعتقد أنها ما زالت كذلك.
في القرن التاسع عشر، كان الكاتب الفرنسي مارسيل بروست من أوائل من اختاروا حياة العزلة الطوعية، فلم ينتظر أن يجتاح العالم وباءٌ فتاك حتى يعمل من منزله. بروست، الذي كتب رائعته “البحث عن الزمن المفقود”، اختار البقاء في غرفته لسنوات طويلة ليكتب ويفكر. لم يكن ذلك مجرد نزوة؛ كان بروست يؤمن أن العزلة تمنحه عمقًا فكريًا ومساحة للتأمل. كان يقول:
“الحياة الحقيقية هي تلك التي نقضيها في العزلة مع أفكارنا”
. وجد في العمل من غرفته عزاءً كبيرًا وسلامًا نفسيًا، بعيدًا عن ضغط المجتمع والالتزامات الاجتماعية التي أزعجته، فإن كان عملك إبداعيًا على وجه الخصوص فإن العمل من المنزل يوفر عليك الكثير من الطاقة الذهنية المهدرة في التعاملات اليومية داخل المكتب. ولكن عليك أن تتفادى فخ العزلة المفرطة عن طريق الحفاظ على التواصل مع زملائك في العمل أو حتى العمل خارج المنزل على تكوين صداقات تتطلع لقضاء الوقت معها نهاية كل أسبوع.
في كل مرة أعمل على تهيئة الأجواء لبدء العمل، أتذكر ما كتبته فيرجينيا وولف عن الـ “غرفة تخص المرء وحده”، هذه الغرفة هي التصور الواقعي والمجازي عن حصول الفرد على استقلاليته في المساحة واستقلاليته في الأفكار، فالعمل داخل المنزل يمنح هذا الشعور القوي بالاستقلالية، فحتى إن كنت مجبرًا على العمل وفق ضوابط محددة، فإن العمل من المنزل يحررك من قيود كثيرة: أين ستجلس؟ كيف ستجلس؟ ستستمع لماذا؟ متى تأخذ فواصل العمل؟ فالتمتع بهذه الحرية يمنح شعورًا كبيرًا بقلة الضغط والتقييد ويمنع عنك التعامل اليومي مع زحمة المواصلات، خاصة إذا كنت تقطن في مدينة كبيرة ومزعجة كالقاهرة أو الرياض مثلًا.
علّمني العمل من المنزل أيضًا درسًا كبيرًا في التنظيم، ففي الأيام الأولى كنت أتعامل مع العمل من المنزل كأنه يوم إجازة من الجامعة، أي أنني لن أفعل شيئًا. وهذا تفكير خاطئ وغير مسؤول بالتأكيد. فالآن أنا مديرتي الخاصة، وإن كان مديري الفعلي لا يهتم سوى بموعد تسليم المهمة، فإنني أنا التي يجب أن أهتم بكيف سأنجز المهمة؟ فتعرّفت في هذه الفترة على طرق مختلفة لإدارة الوقت والتنقل المنتج بين فترات العمل وفترات الراحة، بشكل ساعدني على إنجاز الكثير في وقت أقل.
إن التعامل بحذر مع وقتي داخل المنزل جعلني أقدّر جدًا الوقت الذي أمضيه خارجه. في السابق كان يومي يذهب هباءً بين ساعات العمل وساعات الرجوع للمنزل والقيام ببعض الأساسيات كإعداد الطعام والتنظيف وغيره، والآن أصبحت أستطيع تخطيط باقي ساعات اليوم لنشاطات مختلفة، فأصبح الخروج من العمل غير صعب أبدًا، بل استطعت أن أعود لممارسة رياضتين مختلفتين، وهذا ما كان مهمًا ودافعًا قويًا للاستمرار في العمل. فلا يجب أن ننسى أن نحرك أجسادنا من ٥ لـ ٩ إن كان عملنا يجبرنا على العمل جلوسًا من ٩ لـ ٥.
العمل من المنزل قد يبدو في ظاهره بسيطًا، لكن يحتاج إلى عمق وتفكير للحفاظ على الصحة النفسية. القصص التي تركها لنا هؤلاء المفكرون والمبدعون تلهمني لأرى أن العمل في المنزل ليس مجرد نمطٍ، بل هو فلسفة قائمة على التأمل، التوازن، ومعرفة الذات. تعلّمت أن أخصص مساحة لي، أن أحتضن العزلة بشكلٍ صحي، وأن أجد سعادتي فيما أفعله.
العمل من المنزل قد يكون صعبًا أحيانًا، لكن عندما نتقن بعض المهارات التي نسينا تعلمها داخل المدارس والجامعات، نتعلم أن نستمتع به كرحلة اكتشاف، رحلة تقودنا ليس فقط لتحقيق النجاح، بل للوصول إلى مرحلة من السلام الداخلي.