⁠العاشرة مساءً
٤٦١ كلمة
٠ تعليق

ليست كل العلاقات تُبنى لتدوم.
بعضها لا يدوم أكثر من دقيقتين. كأن تسأل رجلاً عن طريق، أو تشتري قهوة من شاب يضحك رغم الزحام، أو تجلس بجوار امرأة مسنّة في عربة مترو، وتسمع منها شيئًا لا يخصّك… لكنه يبقى. مودة الغرباء لا تعني العلاقات العابرة بالمعنى السطحي، بل تلك اللمسات الإنسانية القصيرة، التي تحدث في يوم عادي، وتُذكّرك أنك لست وحدك في هذا العالم.

ألاحظ أنني حين أتحدث إلى غرباء — بائع في الطريق، عامل توصيل، سيدة في محل — أخرج بشعور غريب: كأن شيئًا في اليوم تحسّن، دون سبب واضح. كأن النفس استرخت قليلًا. كأن الحديث، رغم أنه لم يكن عميقًا، أعاد لي الإحساس بأن هناك شيئًا دافئًا في هذه المدينة القاسية. وفي المقابل، حين أختصر كل التفاعلات، أكتشف أنني أصبحت أكثر توتّرًا. كأنني لا أعيش، بل أمرّ وسط الناس دون أن أراهم، أو أسمح لنفسي بأن أُرى.

في علم النفس الاجتماعي، هناك مفهوم يُسمى “الروابط الضعيفة” (Weak Ties): وهي العلاقات السطحية التي لا تقوم على معرفة أو ارتباط عاطفي، لكنها تُشكّل نسبة كبيرة من شعورنا بالانتماء. الحديث القصير مع شخص لا نعرفه، الابتسامة العابرة، السؤال العادي الذي يُقال بصدق — كلها مساهمات صغيرة في صحتنا النفسية.

كنت أتجنب الحديث مع الغرباء في الأماكن العامة. خشية التطفّل، أو لأنني مشغول، أو فقط لأنني افترضت أن أحدًا لا يريد الكلام. لكن حين جرّبت أن أبدأ، اكتشفت أن معظم الناس ينتظرون فقط لحظة واحدة كي ينفتحوا قليلاً. مرة سألت سائق تاكسي: “إيه أكتر طريق بتحب تمشي فيه؟” فبدأ يحكي لي عن شارع في المعادي، وكيف يمرّ فيه وقت المغرب لأنه يُذكّره بطفولته. لم أكن محتاجًا للمعلومة، لكنني خرجت من التاكسي بشعور بأنني لم أكن راكبًا فقط، بل شخصًا حقيقيًا في حكاية أحدهم.

الحديث في الشارع لا يحتاج إلى جرأة خارقة، بل إلى لحظة صدق. جملة قصيرة: “النهارده حر قوي، مش كده؟” أو: “دي نغمة جميلة، بتسمع مين؟” أو حتى نظرة تُترجم إلى ابتسامة. ليس الهدف بناء علاقة، بل أن نُحدث فرقًا صغيرًا في الجو العام. أن نترك في العالم، ولو لثوانٍ، أثرًا خفيفًا لا يُنسى.

نحن لا نعرف ما يمرّ به الآخرون. وقد تكون جملتك العابرة هي أول كلام لطيف يسمعه شخص منذ أيام. وقد يكون ردّه، البسيط، هو ما يمنحك مزاجًا يسمح لك بأن تكمل يومك بسلام أكثر.

في ثقافتنا، نخاف كثيرًا من الغرباء. نضع الحواجز سريعًا، ونظن أن الكلام للضرورة فقط. لكن الحياة ليست “ضرورات” فقط. بل لحظات، صغيرة، تُرمّم المزاج، وتُعيدك إلى نفسك من خلال عيني شخص لا تعرفه.

كلّما ازدادت ضغوط الحياة، ازداد احتياجنا لهذه اللفتات العابرة. أن يسألك أحدهم: “كيف يومك؟” دون سبب. أن يضحك معك بائع خبز. أن تسمع جملة غريبة من طفل في المصعد… فتضحك دون أن تدري.

مودة الغرباء ليست بديلًا عن العلاقات العميقة، لكنها تطعيم يومي للنفس، بأن العالم، رغم كل شيء، لا يزال يتحدث… وأنك ما زلت، رغم كل التعب، قادرًا على أن تردّ بلطف. وهذا — في زمن السرعة والعزلة — شكل من أشكال النجاة الصامتة.

شارك هذا الـمقال