⁠العاشرة مساءً
٦٠٥ كلمة
٠ تعليق

عن الحضور في زمن الصورة، والحق في الظهور دون امتيازات

في الاجتماعات، في الحوارات، في المساحات المفتوحة — سواء أكانت رقمية أو واقعية —
يبدو أن الصوت لا يُسمع لأنه صائب، بل لأنه صادر من شخص يمتلك حضورًا. وأحيانًا، يكون الحضور جمالًا.
جمال الوجه، أو الصوت، أو الثقة التي تبدو على الجسد. كأن القاعدة الصامتة تقول: من يبدو جيدًا، يُفترض أنه يقول شيئًا جيدًا.

الجاذبية بوصفها “تذكرة دخول”
في دراسة شهيرة من جامعة هارفارد نُشرت في Psychological Bulletin، وُجد أن الأشخاص الذين يُعتبرون أكثر جاذبية يتمتعون بما يسمى بـ Halo Effect — أي أن الناس يفترضون أنهم أكثر ذكاءً، أكثر طيبة، وحتى أكثر كفاءة… فقط لأن مظهرهم “جيد”.
ما يعنيه هذا ببساطة؟ أن الجاذبية ليست فقط ميزة اجتماعية، بل قد تكون مفتاحًا للسماع، للتأثير، وأحيانًا للتصديق.

وما المشكلة؟ أليس الجمال نعمة؟
نعم، هو نعمة.
لكن السؤال ليس عن الجمال نفسه، بل عن التوزيع غير العادل للانتباه. حين يُسمع أحد فقط لأنه جذاب، ويُتجاهل آخر لأنه لا يبدو كذلك، نحن لا نعيش في مجتمع “يرى”، بل في مجتمع “يُصفّي” بناءً على أول 3 ثوانٍ من الانطباع.
وهذا مؤلم — ليس فقط للأفراد، بل للحقيقة نفسها. لأن ما يُقال يُقاس بـمن قاله، لا بما يحتويه.

الجاذبية تُفتح الباب… لكن الأفكار هي من تُبقيك داخله
نعم، الجاذبية اللحظية تخلق الانتباه — هذا لا جدال فيه. قد يجذبك وجه، هيئة، نبرة صوت، وتجد نفسك مُنصتًا.
لكن هذا الإنصات هشّ بطبيعته. فـ ما إن تبدأ الكلمات، حتى تبدأ الكفة في الميل من جديد.
كم من مرة أسرك شكل المتحدث، ثم خذلك حين بدأ بالكلام؟ كم من مرة فتنتك البداية، ثم باغتك الانزعاج مع أول فكرة غبية أو سطحية أو متكررة؟
الانجذاب اللحظي لا يملك ذاكرة طويلة. وما يبقى، في النهاية، هو محتوى العقل، لا قشرة الوجه.
وهنا، يعود التوازن تدريجيًا: فحتى لو تأخر صوتك في الوصول، إن كان صادقًا، واضحًا، عميقًا — فهو، حتمًا، سيبقى أطول من بريق اللحظة.

الفلسفة: هل “الظهور” حق أم امتياز؟
في كتابه سياسة الجسد، يناقش الفيلسوف الفرنسي جان بودريار كيف أن المجتمعات الحديثة تسقط على الأجساد أحكامًا أخلاقية مبطنة.
فالجميل يُفترض أنه جيد، غير مؤذٍ، أو حتى عادل.
بينما “الوجه العادي” يُقرأ كعلامة على التواضع، أو الضعف، أو قلة التأثير.
أما حنة أرندت، فتذهب أبعد من ذلك حين تكتب:
“أن تكون مرئيًا في الفضاء العام هو أحد حقوق الإنسان الأساسية. أن تُسمَع، لا لأنك مميز، بل لأنك موجود.”

في الحياة اليومية، أين نشعر بهذا أكثر؟
في مقابلات العمل: حيث يُفضَّل من “يبدو مناسبًا” قبل من “يفكر بوضوح”.
في عروض التقديم: حيث الثقة البصرية تتفوق على المضمون.
في العلاقات: حيث الجاذبية قد تُترجم — ظلمًا — كعمق أو نُبل أو حتى موهبة.
كل هذه أمثلة ليست استثناءات، بل جزء من نظام كامل… لا يقول الحقيقة بالضرورة، بل يُعيد إنتاج ما هو مريح بصريًا.

هل نحتاج إذًا أن “نبدو” أكثر… كي نُسمع؟
السؤال الحقيقي قد لا يكون: “هل تحتاج أن تكون جذابًا؟”
بل: “هل نملك الحق أن نُسمَع بنفس الطريقة… حتى لو لم نكن جذابين؟”
العدالة ليست أن “يُحبنا الجميع”، بل أن نُعامل بإنصاف في المساحات التي يُفترض أنها عقلانية أو مهنية أو إنسانية.

ما الحل؟ وهل هو ممكن أصلاً؟

  1. أن ننتبه لانحيازاتنا نحن.
    كم مرة أعجبك رأي لأنه قيل بصوت رخيم؟ أو نُفِرت من فكرة لأن قائلها متردد، أو لا يبتسم كثيرًا؟

  2. أن نُراجع من نُعطيهم المنصات.
    هل نتابع من يضيف؟ أم من “يبدو مناسبًا للمتابعة”؟
    القرار شخصي، نعم. لكن أثره عام.

  3. أن نمنح أنفسنا فرصة للظهور دون قلق الشكل.
    أن نُعبر، حتى لو لم نكن أمام الكاميرا. أن نكتب، أن نحكي، أن نحاور… بصوتنا، لا بمظهرنا.

ولهذا: نعم، في هذا العالم، الجاذبية تساعد٬ لكنها لا تصنع الفكرة، ولا تحل محل التجربة، ولا تبرر التجاهل.
أن تُسمَع لا يجب أن يكون امتيازًا شكليًا.
بل حقًا إنسانيًا — يتكئ على ما في الداخل، لا ما يُعرض للخارج.

شارك هذا الـمقال