دون حرج، دون مبالغة، ودون أن نؤذي ونحن نحاول المواساة!
قد تكون جنازة، أو سرادق عزاء، أو زيارة لأهل متوفّى في البيت. الحدث واحد: الموت قد وقع، والحزن حاضر، والناس مجتمعة. أنت تمشي إلى المكان وفي رأسك ألف سؤال: ماذا أقول؟ هل أُقبّل؟ هل أُصافح؟ هل أُطيل الوقوف؟ هل أتكلم؟ هل أُنصت؟ هل أذهب أصلًا؟ العزاء، مهما ظننا أنه “موقف معتاد”، يظل أحد أكثر المشاهد الاجتماعية حساسية. لأنك داخل طقس مهيب، مليء بالعاطفة المكبوتة، والارتباك، والتوتر غير المُعلن. وما تقوله أو تفعله هناك — حتى لو كان بنية طيبة — قد يُنسى… أو لا يُنسى أبدًا.
فيما يلي دليل بسيط، غير متكلف، للمشاركة في العزاء، ليس من منطلق المجاملة، بل من باب الحضور الإنساني الواعي.
أولًا: لماذا نذهب أصلًا؟
أنت لا تذهب لتقول شيئًا بليغًا، بل لتكون هناك. الوجود في ذاته — حتى لو صامتًا — يُحسَب. الصديق الذي حضر دون أن يتكلم يبقى في الذاكرة أعمق من الذي أرسل رسالة مطوّلة. في لحظات الموت، ما نحتاجه غالبًا هو الوجوه، لا العبارات.
ثانيًا: لا تدخل العزاء كأنك في مهمة
خفّف من خطواتك، من نبرة صوتك، من أي حركة زائدة. الناس ليست في مزاج للتفسير أو الاستعراض. يكفي أن تُلقي السلام، وتقول جملة قصيرة حقيقية مثل: “ربنا يرحمه ويصبّركم.” أو “البقاء لله… معاكم من قلبي.” أو “أنا موجود لو احتجتوا أي حاجة.” وتذكّر أن هذه اللحظة ليست عنك. ليست مناسبة لإثبات شيء، ولا لإظهار بلاغة.
ثالثًا: لا تُكثر الكلام… حتى لو كنت مقرّبًا
من أكبر الأخطاء أن نحاول “شرح” الموت، أو تخفيف الحزن بكلمات كبرى: “كان تعبان… وارتاح.” أو “ده أحسن له.” أو “كلنا رايحين.” هذه العبارات، رغم شيوعها، تُغلق مساحة الحزن بدل احتضانها. إذا كنت لا تعرف ماذا تقول، فالصمت أكرم. اليد على الكتف، النظرة الصادقة، الدعاء الخفيف، كلها أفعال أقوى من الكلمات المُعدّة سلفًا.
رابعًا: لا تتحوّل إلى مُحلّل نفسي أو اجتماعي
لا تسأل أهل المتوفّى عن التفاصيل. لا تسأل: “مات إزاي؟ كان عنده إيه؟ حصل فجأة؟” هذه الأسئلة تفتح جروحًا لا داعي لها. اكتفِ بما يُقال لك — وإن كان مختصرًا — وركّز على ما يشعرون، لا ما حدث.
خامسًا: لا تتأخر كثيرًا… لكن لا تنسحب فجأة
خُذ وقتك الكافي، حسب علاقتك بالمتوفّى أو أهله. عشر دقائق قد تكفي، وساعة قد تكون مناسبة أحيانًا. لكن غادر حين تشعر أنك قلت ما تريد، لا تنتظر أن يطلب أحد منك الانصراف. في مصر مثلًا، من المعتاد أن يبدأ العزاء بقراءة القرآن، وغالبًا ما تكون نهاية أول ربع أو نصف جزء هي الإشارة الاجتماعية للانصراف، خاصة للضيوف من الدائرة الأوسع. هي لحظة ضمنية، لا يُعلن عنها، لكنها مفهومة: أن من حضر قد أدّى واجبه، وأن من تبقّى هو من العائلة أو الأصدقاء المقرّبين. في بعض المناطق، خصوصًا في الأقاليم، قد يتخلل العزاء تقديم القهوة أو العصير — لا كتعبير عن الفرح، بل كطقس من طقوس الضيافة. اقبلها بهدوء، ولا تُعلّق عليها. فالناس هناك لا يرونها “تناقضًا”، بل جزءًا من أدب استقبال الناس حتى في أصعب اللحظات. ولا تنس أن الخروج أيضًا فعلٌ يجب أن يكون هادئًا. ودّع من حضر باحترام، ولا تُثر ضجة في الانصراف.
سادسًا: الملابس مهمة… لكن لا تكن مُبالغًا
الأسود ليس فرضًا، لكنه مناسب. الألوان الداكنة أفضل، البساطة أفضل، وما يلفت النظر يُفضَّل تأجيله. أنت لا تريد أن تُلفت الانتباه، بل أن تكون ضمن المشهد… لا في مركزه.
سابعًا: ما بعد العزاء
أحيانًا، الحزن الحقيقي يبدأ بعد أن ينصرف الجميع. الرسالة التي تُرسل بعد أيام، السؤال البسيط، الزيارة القصيرة، قد تكون أكثر فاعلية من العبارات وقت الزحام. كن ممن يعودون — لا من يختفون بعد أداء “الواجب”.
وأخيرًا: لا تحمل نفسك فوق طاقتها
إذا لم تكن قريبًا، ولا تعرف ماذا تفعل، يكفي أن تذهب للحظة وتُعبّر عن وجودك. وإذا كنت في حال لا تسمح لك بالذهاب، أرسل رسالة حقيقية، بصيغة لا تتكلّف، تقول فيها ما كنت ستقوله لو كنت هناك.
العزاء ليس مناسبة اجتماعية، بل مساحة حضور خفيف… لكنه إنساني جدًا. فكّر دائمًا: “لو كنت مكانهم، ما الذي كنت أحتاجه فعلًا؟” ثم افعل أقل مما تعتقد، لكن بصدق… وهذا كافٍ.