⁠العاشرة مساءً
٤٤٣ كلمة
٠ تعليق

هكذا تبدأ الحكمة: أن من لا يزاحمك على رزقك، ولا يقلّدك في حاجتك، ولا يُنافسك في فتات المكانة، يسكن قلبك بلا مجهود. لا لأنك طيب، بل لأنك ترتاح. ولأن الإنسان يحب – فطريًا – من لا يُهدّده.

القول المنسوب للإمام عليّ بن أبي طالب: “وازهد فيما أيدي الناس، يُحبك الناس” ليس وعظًا دينيًا أخلاقيًا فقط، بل توصيف دقيق لسلوك اجتماعي يثمر أثرًا ملموسًا في المشاعر والعلاقات والمكانة.

علم النفس الاجتماعي يؤكّد أن الناس يميلون بالفطرة إلى من لا يُشعرهم بالمنافسة. في دراسة أجراها Nicolas Gueguen حول تأثير الزهد الظاهري على الجاذبية الشخصية، تبيّن أن الأشخاص الذين يُظهرون تقليلًا في الرغبة بالامتلاك أو التفاخر يُنظر إليهم على أنهم أكثر موثوقية، وأقل تهديدًا، وأكثر استحقاقًا للمحبة.

الفكرة هنا ليست الزهد كترك، بل الزهد كقوة. أن تقدر على أخذ الشيء، ثم لا تأخذه. أن يكون في وسعك أن تزاحم، ثم تختار ألا تفعل. الزاهد ليس هو من لا يملك، بل من لا يُرِد أن يملك ما يُشعره بالتشويش. وهذه طبقة عميقة من القوة النفسية.

في زمن التنافس غير المباشر – على المظهر، المال، السفر، عدد المتابعين، والردود الذكية – يصبح الظهور الخافت فضيلة. أن تكون قادرًا على الفعل، ثم تترك الفعل يمرّ دون عرض. أن تمشي وسط الناس دون أن ترفع يدك مطالِبًا بشيء.

عالم النفس Barry Schwartz يميّز بين من يسعى ليكون الأفضل، ومن يسعى ليكون كافيًا. الأول يعيش في حالة توتر دائمة، لأنه يُقارن باستمرار. والثاني يوفّر طاقته لما يعنيه فعلاً. الزاهد، وفق هذا التصور، ليس سلبيًا، بل مركزًا: يعرف ما يهمه، ولا يُهدر نفسه في الباقي.

والناس، في العمق، يشعرون بهذا الفرق. يشعرون متى كنت تُسايرهم وتُرضيهم وتُقلّدهم لتنال القبول. ويشعرون أيضًا حين تكون حاضرًا، لكن غير متطلب. حين تسأل دون استجداء، وتشارك دون استعراض، وتصمت دون حرج.

الزهد هنا ليس تقشّفًا في المظهر، بل وعي في السلوك. أن لا تسأل أحدًا ما لا يُريد أن يعطيه. أن لا تُلاحق محبة، ولا تفرض حضورك، ولا تعتذر عن خفوتك. أن تكون خفيفًا، دون أن تكون باهتًا.

في أدبيات المتصوفة، يُقال إن من أعرض عن الناس مالَت قلوبهم إليه. لا لأنه عَبَس أو استعلى، بل لأنه ارتاح منهم، فارتاحوا منه. الناس – حتى في أكثر حالات الانشغال – يلتقطون إشارات الطمع، والتلهف، والتنافسية المبطنة. ومن لا يُصدر تلك الإشارات، يُشبه الملاذ.

وهذا لا يعني أن تُنكر حاجاتك، ولا أن تعتزل الحياة. بل يعني فقط أن تُفلتر حاجاتك، فتختار منها ما يلزمك فعلاً، وتزهد في الباقي. أن تعرف الفرق بين ما تحتاجه لتعيش، وما تلاحقه لأنك خائف من أن تُنسى.

الزهد، بهذا المعنى، ليس كتمًا للرغبة… بل تهذيب لها. ليس إنكارًا للذات… بل تحريرها من التعليق المفرط بقبول الآخرين. أن تقول لنفسك: أريد أن أكون هنا، لا أن أُرى هنا.

والنتيجة؟ سيحبك الناس. لا لأنك تسعى لحبهم، بل لأنك لا تؤذيهم بمزاحمة. ولأنك، وسط جلبة العرض والمنافسة، تمشي بهدوء. وتشبه السلام.

شارك هذا الـمقال